مقدمة
تشهد سوريا مرحلة انتقالية حرجة بعد انهيار النظام السلطوي القديم وصعود قيادة جديدة بملامح مدنية بقيادة الرئيس أحمد الشرع.
تواجه هذه القيادة تحديات متعدّدة المستويات تتمثّل بتفكيك بنى النظام السابق، ومواجهة الضغوط الطائفية والإقليمية، وإعادة بناء الدولة على أسس الشرعية الوطنية.
في خضم هذه التحديات، تلوح فرضية “الخيار الشمشوني”، أي تهديد القيادة الانتقالية بإسقاط الهيكل السياسي والمؤسّساتي للدولة في حال مورست عليها ضغوط تهدّد بقاءها أو تجردّها من القدرة على قيادة المرحلة.
هذه الورقة تسعى لفهم هذا الخيار بوصفه أداة ردع سياسية، وتحليل مدى واقعيته وتداعياته
السياق النفسي والسياسي للقيادة الانتقالية
يعتمد فهم سلوك القيادة الانتقالية السورية على تحليل بنيتها النفسية والاجتماعية، إذ يجد الرئيس أحمد الشرع، القادم من الوسط السني الدمشقي، نفسه في وضع معقّد بين تطلّعات التغيير وضغوط الواقع، تحيط به شبكة غير متجانسة من الفاعلين، تتوزّع بين نخب أمنية وبيروقراطية وممثّلين عن قوى أهلية، ما يضعه أمام تحديات متعدّدة الاتجاهات، هذا الوضع يخلق بيئة ذهنية شديدة التوتر، تنطبق عليها مقولة روبرت جيرفيس في علم النفس السياسي حول “الإدراك تحت التهديد”، حيث تصبح الخيارات الحادة كالتصعيد أو الانسحاب أو حتى تفكيك المنظومة، ردود فعل دفاعية طبيعية في نظر من يشعر بأنه محاصر أو مستهدف في شرعيته.
وتتجلّى هذه الحالة بوضوح في تجربة الشرع، الذي يتعرّض لضغوط داخلية تدعوه إلى تقديم تنازلات تمس جوهر مشروعه، ولضغوط خارجية تحاول تطويعه ضمن تسويات تخدم مصالح غير سورية، فضلاً عن تحامل مناور ناجم عن انتمائه الديني، في هذا المناخ، لا يمكن تفسير التلويح بخيارات قصوى – كفك المركز، أو تعطيل مؤسّسات الدولة، أو إدارة الفوضى – بوصفها مجرّد مناورة تفاوضية، بل ينبغي فهمها كاستجابة منطقية ضمن إدراكٍ يعتقد أن ما تبقى من الدولة يُنتزع من يده لصالح وصايات متشابكة.
من هذا المنظور، لا يعد الخيار الشمشوني تهديداً بالمعنى الكلاسيكي، بل أداة بقاء سياسي في مواجهة خطر الإقصاء أو التفريغ، وآلية لفرض الاعتراف من موقع الند، لا من موقع التابع.
معضلة الانتماء السني
لا يمكن اختزال السنّة في سوريا ضمن قالب طائفي مغلق، فهم لا يشكّلون طائفة متماسكة بمفهومها المؤسّسي أو العقائدي، بل يمثّلون مكوناً اجتماعياً–تاريخياً واسع الطيف، موزعاً على امتدادات مدنية وريفية، علمانية وتدينية، تقليدية وتحديثية. ومع ذلك، فقد جرى منذ عام 2011 اختزالهم في سردية النظام – وبعض الخطابات الإقليمية والدولية – بوصفهم “الكتلة السنية”، وتحمّلوا بصورة جماعية تبعات الثورة وتحوّلاتها، بما فيها العنف والتطرّف والفوضى، كما لو كانوا فاعلاً طائفياً موحّداً.
هذا الاختزال لم يتوقّف عند حدود الخطاب، بل انعكس عملياً على تعامل الداخل والخارج مع أي قيادة تنتمي إلى هذا المكوّن، القيادة الانتقالية الحالية بوصفها منحدرة من وسط سنّي، تجد نفسها مجبرة على تقديم ما يشبه “أوراق الاعتماد الطائفية”، أي التبرؤ من أي عمق اجتماعي ضمن هذا المكوّن، والقبول بتوازنات تُفرض عليها أن تكون ممثّلاً محايداً يمنح شرعيته فقط إن تجرّد من رمزيته التمثيلية.
وتتعمّق هذه المعضلة نتيجة موقف مزدوج من قِبل بعض المكوّنات الأقلوية في البلاد، لا يتّسم بالصمت، بل يغلّف نفسه بخطاب ديمقراطي يكثر من الحديث عن “حقوق المكوّنات” و”الدولة الجامعة”، بينما تمارس على أرض الواقع أنماط من السلوك السياسي تقوم على الحذر الطائفي، والخوف من استعادة السّنّة لدورهم التاريخي كحامل اجتماعي ووطني للمشروع السوري، هذا التناقض بين القول والفعل يدفع القيادة المنحدرة من الوسط السّنّي إلى الاصطدام بحاجز غير معلن، يجعل من تمثيلها نفسه موضع شك أو مطالبة دائمة بإثبات “الحياد الطائفي”، وكأن عليها أن تنفصل عن جذورها لتُقبل
إن هذا التوتر بين خطاب التعدّدية وممارسة الإقصاء يولّد شعوراً متزايداً لدى قطاعات من السنة بأنهم لا يعاملون كمكوّن وطني طبيعي، بل كـ”طائفة يُخشى صعودها”، ما يدفعهم – على غير رغبة – إلى إدراك ذاتهم ضمن منطق الطوائف، لا كمكوّن رئيسي في مشروع شعب وأمّة، وهنا تحديداً تتغذّى فكرة الرد الدفاعي، لا بوصفها ميلاً للهيمنة، بل كحاجة وجودية لانتزاع الاعتراف ومنع الاختزال.
وكما يشير الباحث مهند الحاج علي، فإن السنة في مرحلة ما بعد النزاع يُعاملون ككتلة يجب تحييدها لا دمجها، بما ينتج بيئة إدراكية خانقة تشعر فيها القيادة بأنها محاصرة لا ممكّنة، وفي هذه البيئة لا يُقرأ الخيار الشمشوني كتهديد اعتباطي، بل كاستجابة نفسية–سياسية لحالة إقصاء مزمنة، تجعل التلويح بتفكيك المنظومة أو الانسحاب منها أداة لفرض الاعتراف، لا لرغبة في الانهيار.
الخيار الشمشوني كأداة ردع
لا يُطرح هذا الخيار بوصفه خطّة رسمية، بل يُستخدم كأداة تفاوضية دفاعية (متفقون على استقرار ووحدة سوريا ولكن وفق شروطنا ومصالح السوريين لا شروطكم ومصالحكم). تتجلّى ملامحه في:
• التلويح بفك المركز، وتعطيل مشروع توحيد مؤسّسات الدولة.
• السماح ببقاء السلاح المحلّي، وفتح المجال لصراعات مناطقية.
• إعادة إنتاج نموذج “الفوضى الخلّاقة” ولكن من الداخل، كوسيلة لردع فرض الإملاءات.
يرى توماس شيلينغ في نظريته عن “الردع بالمخاطرة”، أن تهديد القائد بعمل لا عقلاني – إذا بدا صادقا – ًيمكن أن يرعب الخصوم ويدفعهم للتراجع.
1. تقييم المخاطر والتداعيات الإقليمية
انهيار الدولة السورية أو انسحاب القيادة الانتقالية من المشهد سيترك فراغاً جيوسياسياً يرعب دول الجوار، حيث سيواجه الأردن فوضى أمنية وتهريباً واسعاً للمخدرات على حدوده الشمالية، فيما يهدّد لبنان بانفجار ديموغرافي جديد يربك توازنه الطائفي الهش، تركيا ستجد نفسها أمام تجدّد التهديد الكردي وعودة التنظيمات الجهادية، في حين تخشى إسرائيل من فقدان السيطرة على الجبهة الجنوبية وتسلّل الفوضى نحو الجولان، الاتحاد الأوروبي سيواجه موجة لجوء جديدة تعيد إحياء أزمات 2015، وتعطّل أي أفق لإعادة الإعمار، أما الولايات المتحدة، فإن مشروعها في استقرار الشرق الأوسط وإنهاء ميليشيات ما دون الدولة سيصاب بانتكاسة كبيرة ، وتُجبر على مواجهة ارتدادات أمنية كبرى من عودة الإرهاب وتوسّع نفوذ خصومها في فراغ ما بعد الدولة.
خاتمة
يمثّل الخيار الشمشوني أداة ردع كامنة أكثر من كونه استراتيجية قابلة للتنفيذ الكامل. استخدامه العلني ينطوي على مخاطر سياسية وأخلاقية جسيمة، لكنه في خلفية القرار السياسي قد يشكّل ضمانة لتجنّب محاولات الإقصاء أو الهيمنة على المسار الانتقالي.
يتطلّب هذا الخيار وعياً قياديا ًدقيقا ًبالموازنة بين الضغط والمشروعية، ويستدعي من المجتمع الدولي إدراكا ًبأن استقرار سوريا لا يتحقّق عبر تهميش مكوّنها الأكبر، بل من خلال تمكين قيادة وطنية جامعة، لا مُجرّدة من العمق ولا مقيّدة باعتبارات الوصاية الطائفية أو الجيوسياسية.