قراءة في النفس المؤدلَجة والانفجار الاجتماعي الصامت
كثيرا ما نسأل أنفسنا: ما الذي يدفع إنسانا لأن يفجّر نفسه وسط الأبرياء؟ في شارع مزدحم، في جامعة، حديقة، أو دار عبادة؟ كيف يستطيع أن يحرّر صمّام أمان حزامه الناسف ليحوّل المكان إلى أشلاء وضحايا، ويمضي إلى موته وهو يبتسم تحت وهم “الانتصار”؟
أي قضية تلك التي يُفترض أنها تبرّر فعلاً بهذا القدر من الدموية والعشوائية؟ وأي فكر ذاك الذي يجعل من قتل الأبرياء عملاً مقدسا؟ ما نراه ليس تضحية، بل انتحار مشوّه، وموت مجانيّ يرتكبه شاب ضد مجتمع لم يكن يومًا ساحة حرب.
عبر التاريخ، نعم، ضحّى الجنود بحياتهم دفاعا عن أرضهم وكرامتهم، لكن الانتحاري الذي يزرع الموت في أحياء مدنية لا يشبه هؤلاء هو منفّذ لجريمة تحت غطاء ديني أو سياسي لا يملك أساسا حقيقيا، بل يعيش في ظلال فكر مؤدلَج، مشوّه، ينفصل عن الواقع ليندمج في وهم جماعي مزيّف.
غالبا ما يكون هذا الشخص ضحية منظومة شاملة من التلاعب النفسي وغسل الدماغ، تبدأ بعزله فكريًا داخل جماعة مغلقة، وتستكمل بإعادة تشكيل مفاهيمه عن الحياة والموت، وعن الخير والشر، حتى يصل إلى قناعة أن الفناء عمل بطولي. في كثير من الأحيان لا يسعى المنتحر إلى النصر بقدر ما يسعى إلى إنهاء ذاته بشكل “مُمَجَّد”، يشبه إعلانا يائسا عن وجوده في لحظة أخيرة.
الشخص الذي يرتكب هذا النوع من الجرائم غالبا ما يعاني اضطرابات داخلية عميقة هو مشوّش، غير ناضج، يعاني من عزلة، وإحساس بالهامش، وربما من تفكك عائلي أو تعنيف مستمر بعضهم يحمل نزعة نرجسية، يريد أن يُرى أخيرا، حتى لو كُتب اسمه على صفحة سوداء هو شخص فشل في الاندماج مع الحياة، فقرر أن يواجهها بتفجيرها.
يشير التحليل النفسي الكلاسيكي، كما عند فرويد، إلى أن الكبت الجنسي والاجتماعي قد يكون أحد المحرّكات اللاواعية في هذه الحالات، حيث يتحوّل الفعل التفجيري إلى ما يشبه دراما عنيفة مفرغة من معناها، تعبيرًا عن ذات مكبوتة لا تجد أي مخرج صحيّ للتنفيس أو التحقق فالشباب الذين نشأوا في بيئات تقمع التعبير العاطفي والوجداني، يمكن أن ينخرطوا في عنف مدمر كصورة مشوهة من التمرد والانتحار.
أما من منظور اجتماعي، فإن المجتمعات المنغلقة، التي تُعيد إنتاج خطاب الكراهية وتقصي المختلف، تُعدّ بيئة مثالية لتفقيس هذه الذهنيات. الطفل الذي يُلقّن منذ نعومة أظفاره صورة واحدة للعدو، ويتغذّى على مفاهيم الجهاد الزائف والمظلومية الدائمة، لا يلبث أن يتحوّل إلى أداة تفجير صمّاء. العنف لا ينشأ من فراغ، بل من بيئات تُخصب فيه الكراهية وتنمو على هامش الدولة الوطنية.
ولعلّ الطريق إلى معالجة هذا الخطر لا يمر عبر الأمن وحده، بل يتطلب إصلاحا جذريا يبدأ من المدرسة، ويطال منظومة القيم والإعلام والدين لا بد من تعليم يُنمّي التفكير النقدي، ويزرع التسامح، ويعلّم الطفل أن الاختلاف جزء من الحياة، لا تهديد لها لا بد من تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية تعالج التهميش والفقر والبطالة، وتمنح الشباب فرصة للانتماء والمشاركة لا بد من دمج المجتمعات المعزولة في النسيج الوطني، وتعزيز منظومة الصحة النفسية، عبر الكشف المبكر عن حالات الغضب المكبوت أو التطرّف المحتمل.
إعلامنا، ومنابرنا، ومؤسساتنا الثقافية والدينية، مطالبة بتفكيك الخطاب المتطرف وكشف زيفه فالتناقض بين الشعارات النارية والواقع الدموي يجب أن يُعرّى أمام الأجيال الجديدة.
أخيرًا، يبقى العامل الأهم هو تعزيز الهوية الجامعة عندما نضع “الإنسان أولًا”، ونفكّر كمواطنين قبل أن نفكّر كأتباع، نصنع جدارًا منيعًا ضد أي فكر متطرّف. هذه هي المعركة الحقيقية التي يخوضها حزب الوطن السوري: معركة بناء دولة تحترم الإنسان وتحصّنه من التشظي، وتعيد له ثقته بالحياة، بدل أن يدفعه إلى الهرب منها بتفجيرها.
بقلم: جاك صموئيل
عضو قيادة فرع اللاذقية لحزب الوطن السوري