مثلت الديمقراطية أبجدية الاجتماع المدني، ومنذ نشأة التنظيم السياسي كان الإنسان في جهد دائب للبحث عن كينونته السياسية وإيجاد صيغة توفيقية بين حريته التي تعبر عن تفرده عن سائر الموجودات وبين وجود أنظمة سياسية. فكانت الديمقراطية المعادل السياسي للحرية.
على صعيد الممارسة العربية، جرى جدل بين المفكرين حول عوائق بناء الديمقراطية في الوطن العربي، عزا البعض غياب الديمقراطية الحقة إلى تخلف المجتمع ببناه العضوية القائمة على الانتماءات الوشائجية من عائلة وطائفة وقبيلة، في حين رجح البعض غياب الممارسة الديمقراطية إلى الأنظمة السياسية وتعنتها وعدم وجود إرادة سياسية حقيقية تجعل الديمقراطية مشروعا وطنيا جامعا.
رأى الفريق الأول أن المجتمع غير مؤهل للديمقراطية، فالأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الأولى التي ينتمي إليها الفرد وفيها تغيب أسس الحوار ويمتد ذلك إلى باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية وصولا إلى الأحزاب والمواقع التي يتحكم فيها فرد بمصائر بقية الأفراد، فتنجم عن ذلك ثقافة الخضوع حيث يشعر المواطنون بعدم فاعلية أي جهد سياسي يصبو إلى تغيير الأمر الواقع. في حين جادل الفريق الآخر أن مسألة بناء الديمقراطية مقرونة بالإرادة السياسية أولا ، وليس غيابها نتيجة ثقافة الخضوع المتجذرة في البنية الاجتماعية العربية. بل غيابها هو حالة ضعف في بناء الدولة ذاتها والنظرة الدونية للمجتمع من قبل النخب.
لكل من الرأيين نصيب من الصحة فللديمقراطية ثقافة مجتمعية ولكن الانتقال إليها إرادة سياسية. إن المشكلة الراهنة للعرب عموما والسوريين خصوصا هي مع الأنظمة الموجودة فعلا والدول غير الموجودة.
لم يعن في التجربة الغربية وجود دولة قوية مجتمعا ضعيفا مسلوب الإرادة، لأنه في هذه التجربة بنيت دولة المؤسسات وهي من متطلبات ترسيخ الديمقراطية، كما توافر الدوران السلمي للسلطة، وتم بناء مجتمع مدني فاعل، وتم إحقاق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر المدقع والأمية وتعزيز مشاركة المرأة. فكانت النتيجة دولة قوية ومجتمعا قويا. بل إنه لا يمكن أن يوجد مجتمع قوي دون دولة قوية، ليس بمعنى الدولة القائمة على أنظمة تحكم قبضتها على المواطنين، بل دولة تتعامل مع الأفراد كمواطنين وليسوا كرعايا منفعلين يقتصر دورهم على الاستجابة لقرارات السلطة السياسية.
في سوريا، كانت تعني الدولة – طوال عقود طويلة من حكم الأسد – حكم الحزب المهيمن المسيطر أي حكم البعث، فاختزلت الدولة في ذهن المواطنين على أنها الحاكم وعائلته لذلك كان من المتوقع أنه حينما يسقط النظام البائد سيحمل معه حالات عنف ، ولن يكون التحول نحو الديمقراطية هدفا سهل المنال.
منذ أن طرح جورج شومبيتر مفهومه الإجرائي للديمقراطية وربطها بصناديق الاقتراع وذلك في العام 1942، ساد اعتقاد على أن التنافس على أصوات الناخبين يساعد على عدم الغرق في المفاهيم المعيارية وفي مفهوم المصلحة العامة الذي لا يمكن قياس. إنما يسعد هذا الفهم الذي طرحه شومبيتر على التعبير عن الديمقراطية بصورة ملموسة، فالانتخابات هي جوهر الديمقراطية في الفهم المعاصر الذي وضعه شومبيتر.
صناديق الاقتراع مهمة، ولكنها غير كافية لترسيخ الديمقراطية في المجتمعات العربية ومنها المجتمع السوري. لا شك أن الإرادة السياسية هي من دعائم بناء الديمقراطية، واستحالة الديمقراطية كما يرى الاتجاه الثاني الذي مثله على سبيل الذكر المفكر الفضل شلق، لا تكمن في جذور التخلف الثقافية، بل أن صعوبة بناء الديمقراطية هي مسألة سياسية تتعلق بإرادة النخب الحاكمة.
لكن مع ذلك، من المهم بمكان إقران معنى الديمقراطية بالإضافة إلى التنافس على أصوات الناخبين ببعد آخر وهو المتعلق بمفهوم السياسة بحد ذاته. فإذا كانت السياسة تدبير شؤون المجتمع، فهي ليست فقط صراعا بل وسيلة للعيش المشترك وبناء تكامل بين جميع أفراد المجتمع لإيجاد صيغة توافقية لمصالحهم المتضاربة. وذلك لا يكون دون بناء الديمقراطية على صعيد الفكر والممارسة أيضا.
إن الديمقراطية هي نظام اجتماعي كما هو نظام سياسي وأسلوب للتعايش السياسي دون احتكار للسلطة، فلا بد بهذا المعنى أن يكون مفهوم الديمقراطية مشتق من المعنى الثاني للسياسة الذي لا يقتصر على الصراع والتنافس بل أيضا الوفاق من أجل العيش المشترك.
إن مسألة بناء الديمقراطية ليست فقط مسؤولية النخب الحاكمة وإرادتها السياسية، بل مسؤولية مجتمعية أيضا، فالتحول إلى الديمقراطية مطلب من قبل الشعوب وإلا لم تثر ضد الاستبداد، فهي التي ثارت في سوريا من أجل الحرية وهي التي يجب أن تكون معنية أيضا ببناء الديمقراطية.
إن نظرة النخب والدولة للمجتمع على أنه غير مؤهل للديمقراطية أكبر عامل للإخفاق الديمقراطي، حيث يصاب المجتمع بالإحباط وتفتر همته، وبذلك يستحيل أن ينجح التحول الديمقراطي.
إن النظرة الأفضل لبناء الديمقراطية تتطلب المسؤولية المشتركة بين الدولة بالمعنى الذي لا يقتصر على النظام بل يمتد إلى الشعب ذاته كركن من أركان الدولة وبين المجتمع هي ما يساعد على الانتقال إلى الديمقراطية. فالإرادة السياسية التي لا تنظر للمواطنين الذي ثاروا ضد الاستبداد نظرة دونية، وتعميق المسؤولية الجماعية تجاه الوطن إلى جانب التأكيد على أهمية بناء روابط مدنية هي أس العملية التحديثية للعقل والمجتمع. لا يتطلب ذلك الغرق في تحليل الموروث الثقافي المتخلف وغير الديمقراطي، بل السير بخطوات جدية نحو بناء دولة قوية تستمد شرعيتها من المجتمع فلا تأمر وتنهي وتفرض القرارت العامة فرضا بل يكون المجتمع هو شريك بناء الديمقراطية.
الانتقال نحو الديمقراطية مسؤولية السلطة السياسية ومسؤولية المجتمع، وهذا يعني التأكيد على السياسة كجهد إنساني متسام و دائب لبناء العيش المشترك بمسؤولية كافة الأطراف دون إقصاء، دون نظرة دونية على أساس الطائفة أو العرق أو الدين.
د. ندى ملكاني _ عضوة المجلس المركزي لحزب الوطن السوري – استاذة العلوم السياسية بجامعة دمشق