“الثورات لا تُقاس بما تُسقطه من أنظمة، بل بما تبنيه من قيم.” مالك بن نبي (مفكر جزائري)
لم تكن الثورة السورية لحظة غضب عابرة، ولا مجرد تمرد على سلطة أمنية قاسية، بل كانت مشروعًا للحرية والكرامة والعدالة، انتفض فيه السوريون ليكسروا قيود الخوف وليعيدوا للإنسان مكانته.
ورغم التحديات الهائلة، استطاعت الثورة أن تحقق النصر العسكري في أجزاء واسعة من البلاد، وأسقطت نظام الاستبداد في مناطق عديدة، وغيّرت معادلات طالما حسبها الطغاة أبدية، لكنها في ذات الوقت ما زالت تقف أمام تحدٍّ أشد وأعمق، وهو تحقيق أهدافها الكبرى في حرية الإنسان وكرامته، وإنجاز أهم انتصاراتها على الإطلاق: الانتصار الأخلاقي.
لكن المعركة مع الاستبداد لا تُحسم بإسقاط رموزه فقط، بل حين تُبنى في النفوس قيم الحرية، ويُستعاد العدل، وتُصان كرامة الإنسان في كل تفاصيل الحياة. وما يهدد هذا الطموح اليوم هو تسلل خطابات التعميم، التي تُحمّل جماعات كاملة، وفي مقدمتها الطائفة العلوية، جريرة النظام وجرائمه، وكأن الثورة فقدت بوصلتها في لحظة الغضب، وشارفت أن تكرر فعل جلادها باسم الضحية.
في هذا السياق، لا بد من التذكير بأن الثورة السورية لم تكن ضد العلويين، ولا ضد أي طائفة أو أقلية، ولم تهدف إلى أن يستبدل السنة غيرهم في مقاعد الحكم، بل كانت ثورة كل السوريين الأحرار على نظام استبدادي استخدم الطوائف أداة لإحكام قبضته على البلاد. وفي صراع الشعب مع النظام، لم تغب أصوات العلويين كجزء من الشعب عن مشهد الرفض، فمنهم من قاوم الأسد الأب مبكرًا، ودفع ثمنًا باهظًا من سجن وملاحقة وتشريد، ومنهم من كان في قلب الحراك الثوري، رافضًا أن يكون شاهد زور على سفك دماء أبناء وطنه.
وبما أن الظلم لا يُقابل بظلم، فقد دفع هؤلاء العلويون ثمن مواقفهم مرتين، أولًا لأنهم عارضوا النظام، وثانيًا لأنهم وُضعوا في سلة واحدة مع القامعين. وكأن الطائفة صارت قدرًا محتومًا، لا يُبرئ منه صدق الموقف، ولا دماء سالت في سبيل العدالة. فكيف للعدل أن يرى الناس جماعات صمّاء، لا أفرادًا مسؤولين عن أفعالهم؟ وكيف لا يُبصر الموقف في سياقه ومآلاته وتداعياته، بل الأهم، في أخلاقياته؟ وما جدوى الحرية إن لم تكن مشروطة بحرية الإنسان، كل الإنسان، وفي المقدمة شريك الوطن؟
وانطلاقًا من ذلك، فإن العدل الذي قامت عليه الثورة كمبدأ وكشعار لا يتحقق بإسقاط نظام الأسد فقط، بل حين يتحرر السوريون أيضًا من الطريقة التي كان ينظر بها إليهم، وينظرون إلى أنفسهم، كأفراد يُحاسبون على أفعالهم لا على هوياتهم. فالقرآن الكريم وضع مبدأ حاكمًا لا يقبل التأويل حين قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (فاطر -18)، أي أن الذنب لا يُورَّث، ولا تُؤخذ الجماعات بجريرة الأفراد، ولا يُحمَّل بريء وزرًا لم يقترفه.
وبنفس السياق، أكد القرآن أن أي جماعة إنسانية، أيًّا كانت، ليست كيانًا واحدًا منسجمًا، بل هي طيف واسع يضم المصلحين والمفسدين، العادلين والظالمين، ولا يمكن جمعهم في سلة واحدة، حيث قال: {لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (آل عمران -113). وهذا لم يكن مجرد نص نظري، بل كان روحًا تسري في سلوك النبي ﷺ، الذي عاش في مجتمع تتعدد فيه الديانات والأعراق والطوائف، فلم يكن يومًا ينظر إلى الناس من نافذة انتماءاتهم، بل من حقيقة أفعالهم. وكان الفرد يُحاسب بعمله، لا بما يحمله من اسم، أو ينتسب إليه من جماعة.
وبناءً على ذلك، فإن النظام لم يكن يستبيح المدن والبلدات لأنه كان يطارد مجرمين، بل لأنه اعتبر الشعب السوري خريطة طائفية موزعة بين “مطيع” و”خارج عن الطاعة”، “موالٍ” و”عدو”، ولم يرَ في السوريين أفرادًا لهم حقوق وحريات، بل أدوات أو خصوم محتملين، يصنفهم بحسب الهتاف لا بحسب الحقيقة. وهنا يبرز السؤال الأخطر: هل يكفي أن ننتصر عليه في الميدان، ونسقط رموزه، ونرفع أعلام الثورة، إذا كنا سنبقي على منطقه في تصنيف الناس وتعميم الإدانة؟ وهل يكفي أن نُزيح الاستبداد عن وجه البلاد، ثم نُعيد زرعه في النفوس، بتكرار أدواته التي فرّقت السوريين وعاملتهم على أنهم جماعات لا أفراد؟
إن الثورة السورية لم تكن يومًا ثورة على نظام فحسب، بل كانت ثورة على منهج، تسعى إلى تحقيق الانتصار الأخلاقي الذي يُسقط روح النظام ومنطقه، ويمنع أن يتكرر الطغيان تحت أي شعار جديد. فالثورة التي تنادي بالحرية والكرامة لا تملك، أخلاقيًا ولا إنسانيًا، أن تُعمّم الإدانة وتُصادر البراءة دون دليل. فما معنى أن نهزم جلادنا في الميدان، ثم نُشبهه في الروح، ونستنسخ منطقه القائم على الشبهة والهوية؟ ذلك ليس نصرًا، بل خيبة مؤجلة.
وفي النهاية، لا يبدأ الطريق إلى سوريا الجديدة بتبديل المواقع بين الضحية والجلاد، ولا بتمكين الأكثرية على حساب الأقلية، بل حين يُعاد الاعتبار إلى الإنسان، أيًّا كان انتماؤه، فيكون ميزان المواطنة والكرامة قائمًا على الحق لا على الهوية. ذلك هو النصر الذي تُبنى به الأوطان، وتُشفى به الجراح، وتستعيد به الثورة معناها الأصيل.
فالعدل ليس تكتيكًا سياسيًا عابرًا، بل هو الروح التي تُعطي الثورة شرعيتها أمام الشعب، وتضمن لها احترام الأجيال والتاريخ. وكم من ثورة ربحت أرضًا، لكنها خسرت روحها حين خانت مبادئها الأولى، فتحوّلت إلى ظل آخر لطغيانها القديم. أما الثورة التي تعرف كيف تنتصر على جلادها، لا بالسلاح وحده، بل بأن تتجاوز منطقه وتُسقط أدواته، فهي الثورة التي تستحق أن تُكتب في وجدان الناس، وتُخلد في ذاكرة الأحرار، مهما طال طريقها، أو تأخر نصرها.
بقلم عضو المكتب السياسي المستشار العام لحزب الوطن السوري الرفيق عبد القادر الموحد