الاتفاق الأخير لدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن الجيش السوري أنعش آمال السوريين في تحقيق مؤتمر حوار وطني شامل، لا يُقصي أي مكوّن، وفق ما صرّحت به القيادة الجديدة. هذه الخطوة تعكس إدراكاً متقدماً لمعادلة لم يفهمها النظام السابق، وهي أن استمرار الصراع مع قسد يعيق التنمية الاقتصادية ويعرقل جهود إعادة الإعمار.
رغم سقوط حكم البعث في سوريا بعد عقود من الإقصاء السياسي والثقافي، لم تتبدد المخاوف الكردية من التهميش، إذ ظل الشعور بالاستهداف قائماً، ولم يجد الأكراد أنفسهم مشمولين في الشعارات التي بشّرت بالتحرر من الظلم. هذه المخاوف متجذرة في عمق القضية الكردية، إذ طالما تعاملت دول المنطقة مع الكرد بوصفهم مكوّناً متمايزاً وليس متميّزاً، يُنظر إليه كعنصر غريب عن النسيج الوطني، يميل بطبيعته للبحث عن وطن مستقل، وفق التقسيمات التي فرضتها اتفاقية سايكس بيكو. هذا الواقع التاريخي أدى إلى فقدان الثقة بين الحكومات المتعاقبة والمكوّن الكردي، خاصة مع ارتباط الملف الكردي بتوجهات خارجية وتعقيدات إقليمية.
في هذا السياق، قدّم الرئيس أحمد الشرع تطمينات للمجتمع الكردي عند تسلمه قيادة البلاد، مؤكداً أن الأكراد “جزء من الوطن وشركاء في سوريا المستقبلية”. كما شدد وزير الخارجية الشيباني على أن المكوّن الكردي أضفى جمالاً على سوريا، لكنه تعرض للظلم في ظل نظام البعث، وأن النظام الجديد يسعى لتحقيق العدالة. ورغم هذه التصريحات، لا تزال هناك تساؤلات حول مدى قدرتها على تبديد الهواجس المتراكمة.
التحدي الأساسي هنا يكمن في الذهنية التي تنظر إلى الكردي بوصفه فرداً بين منزلة المواطن ومنزلة ناقص الهوية، مقصى من الأيديولوجيا الرسمية. مجرد اعتبار الهوية الكردية هوية فرعية يعني احتواءها، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج تماثل إنكار وجودها من الأساس. لذا، فإن التعامل مع هذا التحدي يستلزم حواراً حقيقياً، وليس مجرد تطمينات سياسية. القيادة الجديدة أبدت استعدادها للحوار مع قسد، وهو ما يظهر بوضوح في الخطاب الرسمي الذي يركز على المجتمع الكردي والحوار الوطني، ما يعكس ضرورة إيلاء البعد الثقافي لهذا المكون أهمية خاصة في أي مفاوضات.
بوادر الصراع المستقبلي تتحدد وفق خطوات الحاضر، ويبدو أن استمرار المفاوضات هو الخيار الرئيسي الذي تطرحه دمشق، وفق مبدأي توحيد البلاد وعدم وجود أي فصائل عسكرية خارج سلطة الدولة. هذا يفسر تحركات قسد ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد) والإدارة الذاتية لعقد اتفاق يقضي بدمج المؤسسات العسكرية والأمنية التابعة لقسد مع الجيش السوري، ما يضمن احتكار الدولة وحدها لوسائل العنف المشروع، ويجنب البلاد سيناريوهات العنف المستدام، كما يحدّ من ارتباط الملف الكردي بأطراف خارجية تسعى إلى زعزعة الاستقرار. ومن أبرز النقاط التي يتضمنها الاتفاق، سحب المقاتلين الأجانب من صفوف قسد ومنطقة شمال شرق سوريا، ما يعزز الاستقرار والسيادة الوطنية.
قسد، التي تأسست أساساً لمحاربة داعش، تمثل قاعدة انطلاق للحوار بين دمشق والجانب الكردي، لكن السياسة لا تُدار فقط بالإيديولوجيات والانفعالات الثورية، بل بمصالح متبادلة. من مصلحة النظام الجديد التعامل مع الملف الكردي بحذر، خاصة في هذه المرحلة الحساسة، وربما يكون تبني نظام لامركزي شامل مدخلاً للمصالحة، بشرط تجاوز التحديات المحلية المتعلقة بالاعتراف بحقوق الكرد في الهوية واللغة والثقافة، والتخلي عن المقاربة الأمنية التي جعلتهم يشعرون بالاستهداف الدائم.
زيارة الشرع إلى شمال شرق سوريا ستكشف عن مخرجات التفاهمات بين أنقرة ودمشق حول الملف الكردي، كما ستعكس مدى تأثير الرغبة الدولية في تسوية هذا الملف، باعتباره ورقة يمكن أن تسهم في رفع العقوبات الاقتصادية وفتح الباب أمام إعادة الإعمار. الإدارة السورية تحاول تقديم نفسها كبديل لقسد في حماية المخيمات والسجون التي تضم عناصر داعش وعائلاتهم، وهو تطور قد يحمل أبعاداً استراتيجية مهمة.
ما تدمّره الأسلحة قد يصلحه الحوار، إذا توفرت الإرادة الحقيقية للوصول إلى تفاهمات متوازنة. فالحوار ليس استعراضاً للقوة، بل عملية تفاوض على أسس واضحة، هدفها تحقيق تقارب في وجهات النظر، وصولاً إلى صيغة يصبح فيها الكرد مكوناً متميزاً ضمن النسيج الوطني، وليس طرفاً نافراً أو خارج السياق.
بقلم: الدكتورة ندى ملكاني
أستاذة العلوم السياسية في جامعة دمشق