المعايير الموضوعية لتقييم إدارة المراحل الانتقالية: دراسة حالة سوريا
ملخص تنفيذي
تتناول هذه الدراسة المعنونة «المعايير الموضوعية لتقييم إدارة المراحل الانتقالية: دراسة حالة سوريا» التحديات التي تواجهها الإدارة السورية الانتقالية بعد انهيار النظام القديم وصعود حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع . تنطلق الدراسة من سؤال رئيس:
ما هي المعايير الموضوعية التي يمكن اعتمادها لتحليل وتقييم أداء الإدارة الانتقالية في سوريا؟
تعتمد الدراسة إطارا مفاهيمياً يرتكز على سبعة معايير أساسية: الشرعية الانتقالية، إدارة الهشاشة، إشارات الانفتاح، إدارة الدعم الدولي، الأولويات القصيرة المدى، بناء الثقة المجتمعية، ووضوح الرؤية الانتقالية.
أظهرت الدراسة أن الإدارة الانتقالية حققت بعض النجاحات (خفض مستوى العنف، فتح بعض القنوات الدولية، تقديم خدمات جزئية)، لكنها لا تزال تعاني من هشاشة بنيوية خطيرة على مستوى الشرعية المجتمعية، غياب المصالحة الوطنية، وضعف الرؤية الاستراتيجية.
ليس نجاح المراحل الانتقالية مرتبطاً فقط بإسقاط النظام السابق أو توقيع اتفاقات سياسية، بل بقدرة الإدارة الجديدة على بناء عقد اجتماعي جامع، وتطوير مؤسسات قادرة، وإشراك الفاعلين المحليين، والمجتمع في رسم مستقبل البلاد. في الحالة السورية، تعيق التدخلات الدولية والانقسامات المجتمعية العميقة أي مسار سلس ومستدام للانتقال.
توصي الدراسة بما يلي:
على الإدارة الانتقالية:
إقرار إعلان دستوري واضح وجدول زمني للانتقال؛
ضبط الأمن والخدمات مع خطة لإصلاح الاقتصاد؛
الانفتاح الحقيقي على المعارضة والمجتمع المدني؛
معالجة ملفات اللاجئين والمعتقلين لبناء الثقة.
على المجتمع المدني:
تعزيز الرقابة الشعبية، وإطلاق مبادرات مصالحة محلية؛
توسيع مساحة المشاركة المجتمعية.
على المجتمع الدولي:
تقديم دعم مشروط بالإصلاحات، وتنسيق المساعدات، ودعم بناء القدرات المحلية.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم أداة تحليلية عملية للباحثين وصناع القرار والفاعلين الدوليين المعنيين بدعم مستقبل سوريا، عبر الانتقال من مرحلة الهشاشة والفوضى إلى مرحلة الاستقرار والمؤسساتية.
—
المقدمة
تعيش سوريا اليوم واحدة من أعقد المراحل الانتقالية في العالم العربي، بعد أكثر من عقد من النزاع المسلح الذي خلّف دماراً واسعاً في البنية التحتية، ومزق النسيج الاجتماعي، وأنتج مشهداً سياسياً هشاً متعدد الأقطاب. في مثل هذه السياقات، يصبح من الخطأ اعتماد مقاييس الدول المستقرة لتقييم أداء الإدارة الجديدة؛ إذ لا تكفي مقاييس مثل الانتخابات أو السيطرة العسكرية أو حتى الشرعية الدستورية لفهم تعقيدات الحكم في مرحلة انتقالية هشّة. كما أشار عمرو الشوبكي، فإن الانتقال الديمقراطي في المجتمعات المنقسمة لا يرتكز فقط على المؤسسات، بل على قدرة النظام الجديد على إنتاج شرعية متعددة المصادر وتحقيق حد أدنى من التوافق الوطني.
تكمن أهمية هذه الدراسة في محاولتها تقديم إطار عملي وواقعي لتحليل المرحلة الانتقالية السورية، عبر تجميع وتفكيك أداء الإدارة الانتقالية، بعيدًا عن الانفعالات السياسية أو الأحكام المسبقة. كما يوضح مجموعة معايير موضوعية لتقييم الأداء. كما يؤكد عزمي بشارة، فإن مراحل الانتقال تتطلب فهماً عميقاً لبنية السلطة والعلاقات المجتمعية، لأن الإصلاحات الشكلية غالباً ما تفشل أمام هشاشة الدولة العميقة وانقسامات المجتمع.
تسعى هذه الدراسة للإجابة عن السؤال الرئيس: ما هي المعايير الموضوعية التي يمكن اعتمادها لتحليل وتقييم أداء الإدارة الانتقالية في سوريا؟ ومن خلال ذلك، تهدف إلى:
تحديد المعايير الأساسية ذات الصلة بالسياق السوري؛
اختبار مدى قابليتها للتطبيق على الواقع العملي؛
تقديم توصيات عملية للفاعلين المحليين والدوليين المعنيين بدعم المرحلة الانتقالية في سوريا.
تعتمد الدراسة منهج التحليل الوصفي والتحليلي، وتستند إلى إطار دراسة الحالة، مع التركيز على تحليل الوثائق والخطابات والسياسات المتبعة في الإدارة السورية الانتقالية. كما تستفيد الدراسة من الأدبيات العربية حول العدالة الانتقالية، تجارب المصالحات المجتمعية في السياق العربي، ومقاربات إصلاح مؤسسات الدولة بعد النزاع.
2. مراجعة الأدبيات
تتناول أدبيات الانتقال السياسي مفهوم المرحلة الانتقالية باعتبارها مرحلة تتسم بالهشاشة المؤسسية والسياسية والاجتماعية، حيث يكون النظام القديم قد انهار أو فقد شرعيته، بينما لم تترسخ بعد مؤسسات النظام الجديد.
في السياق العربي، يشير عمرو الشوبكي إلى أن أبرز سمات هذه المراحل هي غياب الإجماع الوطني، وانقسام الفاعلين السياسيين والمجتمعيين حول تعريف الشرعية ومصادرها.
يؤكد عزمي بشارة أن الانتقال الديمقراطي لا يتحقق فقط من خلال تغيير النخب أو إجراء انتخابات، بل يتطلب بناء عقد اجتماعي جديد يضمن المشاركة والتعددية واحترام حقوق الإنسان.
أما في ما يتعلق بالشرعية، فتتناول الأدبيات ثلاثة مستويات رئيسية:
1. الشرعية القانونية (القائمة على وجود إطار دستوري أو قانوني معترف به).
2. الشرعية السياسية (المستمدة من الدعم الشعبي والتوافق الوطني).
3. الشرعية الوظيفية (القائمة على قدرة الإدارة على تقديم الخدمات وضبط الأمن).
تبين تجارب مثل تونس ومصر بعد 2011، أن غياب أحد هذه الأبعاد يؤدي إلى تعثر العملية الانتقالية أو انحرافها نحو الاستبداد الجديد.
من جانب آخر، تولي الدراسات العربية حول العدالة الانتقالية أهمية كبيرة لمفهوم إدارة الهشاشة، بمعنى قدرة الدولة أو الإدارة الانتقالية على تجنب الانهيار الكامل، ولو بوسائل مؤقتة.
يرى عمار جمال الدين أن المبالغة في التركيز على العدالة أو الانتقال الديمقراطي، دون الانتباه إلى ضرورات استقرار الدولة، قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
وفي دراسة لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان حول المصالحات الوطنية، يوضح أن نجاح المصالحات لا يعتمد فقط على توقيع اتفاقيات، بل على بناء قنوات اتصال محلية، وإشراك الفاعلين الأهليين والدينيين، وتوفير ضمانات أمنية واقتصادية للمهجرين والمتضررين.
أما من الناحية الدولية، فتبرز دراسات الأمم المتحدة ودراسة رولاند باريس أهمية إدارة الدعم الدولي باعتباره سيفاً ذا حدين: فهو ضروري لإعادة الإعمار ودعم المؤسسات، لكنه قد يتحول إلى أداة للوصاية أو الهيمنة إذا لم يُدار بحكمة.
أخيرًا، تؤكد الأدبيات المقارنة على أهمية وضوح الرؤية الانتقالية، وتحديد أهداف وخطوات ملموسة للانتقال، تجنباً لتحوّل المرحلة الانتقالية إلى حالة مفتوحة إلى ما لا نهاية، كما حدث في عدد من الدول الإفريقية والآسيوية.
—
3. الإطار النظري والمنهجي
3.1 الإطار المفاهيمي
تعتمد هذه الدراسة على إطار تحليلي يتألف من سبعة معايير رئيسية، صيغت من خلال مراجعة الأدبيات العربية والدولية حول المراحل الانتقالية، وهي:
1. الشرعية الانتقالية: تتنوع بين الشرعية القانونية (وجود إطار قانوني ناظم)، الشرعية السياسية (التوافق الوطني)، الشرعية المجتمعية (قبول الناس)، الشرعية الوظيفية (تقديم الخدمات)، والشرعية الدولية (الاعتراف والدعم الخارجي).
2. إدارة الهشاشة: تعني القدرة على ضبط العنف، حماية الخدمات الأساسية، الحفاظ على مؤسسات الدولة، إدارة النزاعات المحلية، والتحكم بسردية الخوف.
3. إشارات الانفتاح: تشمل إطلاق رسائل طمأنة سياسية، إشراك المجتمع المدني، فتح قنوات مع المعارضة، تبني إشارات الانفتاح ومرونة في الخطاب الرمزي، واتخاذ خطوات إعلامية واتصالية تشجع الانفتاح.
4. إدارة الدعم الدولي: القدرة على التفاوض الذكي مع الخارج، تنويع مصادر الدعم، حماية السيادة الوطنية، إدارة المساعدات، والانخراط الإيجابي في النظام الدولي.
5. الأولويات القصيرة المدى: تركز على تأمين الأمن الغذائي، المياه والصحة، التعليم الأساسي، الطاقة والنقل، وحماية الفئات الهشة.
6. بناء الثقة المجتمعية: يشمل معالجة ملفات اللاجئين والمهجرين، المعتقلين والمختفين، إطلاق مصالحات محلية، تمكين القوى الأهلية والدينية، وإحياء الذاكرة المشتركة.
7. وضوح الرؤية الانتقالية: يتعلق بوجود وثيقة سياسية أو إعلان دستوري واضح، وجدول زمني محدد، وتعريف واضح للغايات الكبرى، مع مشاركة مجتمعية في رسم الرؤية، وتواصل مستمر حول الخطط والخطوات.
—
3.2 المنهجية
تعتمد الدراسة منهج التحليل الوصفي والتحليلي (descriptive-analytical method)، عبر الخطوات التالية:
تحليل الوثائق الرسمية والخطابات السياسية الصادرة عن الإدارة الانتقالية السورية.
ربط هذه التحليلات بالإطار المفاهيمي المستمد من الأدبيات.
مقارنة التجربة السورية مع تجارب عربية ودولية مماثلة (مثل تونس، مصر، رواندا، البوسنة)، لفهم التفاعلات المعقدة بين السياسة والمجتمع.
تُوظَّف في ذلك مقاربة دراسة الحالة (case study approach)، مع التركيز الزمني على المرحلة الأولى من الانتقال (0–3 سنوات). وكما أشار علي خليفة الكواري، تُعد دراسة الحالة أداة فعالة لفهم الديناميكيات المحلية بتفاصيلها الدقيقة.
—
3.3 حدود الدراسة
تواجه الدراسة عدة قيود، أبرزها:
غياب البيانات الميدانية المباشرة بسبب الوضع الأمني.
الاعتماد الأساسي على الوثائق والتحليلات الثانوية بدلًا من المقابلات الميدانية.
التركيز على الإدارة الانتقالية في مناطق محددة من سوريا دون شمول جميع المناطق.
رغم ذلك، تسعى الدراسة إلى تقديم تحليل واقعي وموضوعي يدعم التفكير الاستراتيجي لصناع القرار والباحثين والمجتمع المدني حول مستقبل سوريا.
4. تحليل الحالة السورية
يستند هذا التحليل إلى تطبيق المعايير السبعة الواردة في الإطار المفاهيمي على الوضع السوري بعد 2025، مع التركيز على الإدارة الانتقالية الناشئة بعد انهيار النظام القديم وصعود حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرطاوي. تم هنا رصد النجاحات والإخفاقات بناءً على الممارسات المعلنة والملاحظة، وربطها بالأدبيات ذات الصلة.
—
4.1 الشرعية الانتقالية
في السياق السوري، لا يمكن اختزال مفهوم الشرعية الانتقالية في الانتخابات أو السيطرة العسكرية وحدها؛ بل إن الشرعية مركبة ومتعددة الأبعاد، تتكون من عناصر متداخلة بعضها قانوني، وبعضها سياسي، وبعضها مجتمعي.
بناءً على الأدبيات المعتمدة في هذه الدراسة، يمكن تفكيك مفهوم الشرعية الانتقالية إلى الأبعاد التالية:
1. الشرعية القانونية: وجود مرجعية قانونية تحكم عمل الإدارة، مثل إعلان دستوري مؤقت، أو اتفاق مرحلي معترف به، أو إطار قانوني متفق عليه بين القوى المختلفة. لا يشترط وجود دستور دائم، بل يكفي وجود قاعدة قانونية تنُظم العمل. غياب المرجعية القانونية يجعل الإدارة أقرب إلى سلطة أمر واقع لا تختلف عن الميليشيات أو القوى المسلحة المحلية.
2. الشرعية السياسية: مدى اتساع قاعدة الدعم السياسي للإدارة، أي تجاوزها الفصيل أو الجماعة التي تمثلها إلى تفاهمات مرحلية مع قوى سياسية أخرى، حتى لو لم تصل إلى مستوى الشراكة الكاملة. وجود معارضة لا يلغي الشرعية، لكن غياب أي شكل من أشكال التوافق يجعل شرعية الإدارة هشّة ومعرضة للانهيار.
3. الشرعية المجتمعية: ما إذا كانت الفئات المجتمعية المختلفة (طوائف، أعراق، جهات) ترى أن الإدارة تمثلها أو على الأقل لا تقصيها، ومدى اعتراف النخب الاجتماعية (شيوخ عشائر، رجال دين، قادة مدنيين) بشرعية الإدارة. هذه الشرعية لا تأتي فقط من النخب، بل أيضًا من رضا الناس العاديين أو قبولهم الواقعي بوجود الإدارة.
4. الشرعية الوظيفية: قدرة الإدارة على تقديم الخدمات الأساسية وحماية الأمن. في السياقات الهشة، قد يقبل السكان بسلطة معينة فقط لأنها تنجح في ملء الفراغ، حتى لو لم تكن شرعيتها القانونية أو السياسية مكتملة.
5. الشرعية الدولية: اعتراف أو دعم خارجي بالإدارة، ولو بشكل محدود، عبر فتح قنوات تواصل أو دعم سياسي واقتصادي ولوجستي. غياب هذه الشرعية يعزل الإدارة ويضعف قدرتها على جذب المساعدات أو التعامل مع ملفات كعودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
هذه العناصر لا تكون دائما مكتملة، ولا يشترط توفرها كلها لنقول إن هناك شرعية، لكنها تشكل مصفوفة تقييم تساعدنا على فهم موقع الإدارة الانتقالية ومدى تماسكها. والأهم، أن الشرعية في المراحل الانتقالية ديناميكية، أي أنها قابلة للتطور والنمو (أو الانهيار) بسرعة بناءً على أداء الإدارة وسلوكها.
عند تطبيق هذا الإطار على الحالة السورية، نجد أن الإدارة الانتقالية تعاني من هشاشة واضحة في الشرعية القانونية، فعلى الرغم من إنجاز إعلان دستوري مؤقت يحدّد صلاحياتها، إلا أن هذا الإعلان لم يحظَ بعد بتوافق وطني شامل، ما يضعف من مشروعيته ويبقي الإطار القانوني الحاكم في حالة من عدم الاستقرار.
على المستوى السياسي، تعتمد الإدارة على ترتيبات سياسية هشة واتفاقات مرحلية مع الفصائل والقوى المحلية، مما يجعلها تكتسب بعض الشرعية من توافقات داخلية بين أطياف المعارضة، لكنها تواجه تحدياً حقيقياً في توسيع هذا التوافق ليشمل القوى المدنية والنخب المجتمعية.
أما الشرعية المجتمعية، فلا تزال محدودة، إذ يشعر جزء من السكان بالتهميش أو الخوف من الانتقام، خصوصًا في المناطق الساحلية وشرق سوريا.
على المستوى الوظيفي، نجحت الإدارة جزئياً في تأمين بعض الخدمات، لكنها لا تزال عاجزة عن بسط الأمن الكامل.
أما الشرعية الدولية، فهي لا تزال في طور التشكّل. فقد نالت الإدارة الانتقالية دعماً تدريجياً من الاتحاد الأوروبي وعدد من منظمات الأمم المتحدة، كما أبدت دول مثل كندا وألمانيا وفرنسا استعداداً للتعاون المشروط. ومع ذلك، فإن غياب اعتراف رسمي صريح من قوى كبرى مثل روسيا والصين يحدّ من قدرة الإدارة على تثبيت شرعيتها دولياً، خاصة في المحافل الحساسة كالأمم المتحدة.
4.2 إدارة الهشاشة
تُعد إدارة الهشاشة المعيار الأخطر والأكثر حساسية في سياقات ما بعد الصراع، لأنها لا تتعلق فقط بقدرة الإدارة على الحكم، بل بقدرتها على منع الانهيار التام. بمعنى آخر، الإدارة لا تُحاسب هنا فقط على الإنجازات الكبرى، بل على قدرتها على إبقاء البلاد واقفة على قدميها، ولو بأدوات مؤقتة. استنادًا إلى الأدبيات المعتمدة في هذه الدراسة، يمكن تفكيك مفهوم إدارة الهشاشة إلى خمسة عناصر رئيسية:
1. السيطرة على العنف: نجاح الإدارة في تقليص مستوى العنف اليومي، ضبط الفصائل المسلحة والميليشيات، وضمان وجود سلسلة قيادة واضحة داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية، مع اتخاذ إجراءات تمنع عمليات الانتقام أو المذابح أو التطهير المحلي. في الحالة السورية، تعني إدارة الهشاشة هنا السيطرة على التوترات بين المكونات الطائفية والعرقية ومنع تفجّرها في الأحياء المختلطة أو مناطق التماس.
2. حماية الخدمات الأساسية: استمرار عمل شبكات المياه والكهرباء، فتح المدارس والمشافي، ووضع خطط إسعافية لإصلاح الأعطال ولو بشكل مؤقت. في سوريا، لا يعني هذا بناء منظومات متكاملة، بل ترميم شبكات صغيرة في الأحياء والبلدات، وضمان توفر الوقود، دعم الأفران، وتأمين الخبز والدواء.
3. الحفاظ على مؤسسات الدولة: بقاء المؤسسات الإدارية الأساسية (الداخلية، البلديات، القضاء، التعليم…) ولو بحدها الأدنى، مع وضع خطط لإعادة هيكلة المؤسسات القديمة بدل تصفيتها، ومنع انهيار الاقتصاد عبر تدخلات سريعة. في الحالة السورية، يُعد ترك مؤسسات الدولة تنهار بالكامل خطأً قاتلاً، إذ سيكون من شبه المستحيل إعادة بنائها لاحقاً.
4. إدارة النزاعات المحلية: وجود آليات لحل النزاعات المجتمعية (نزاعات الأراضي، الثأر، النزوح الداخلي)، وقنوات لاحتواء الأزمات مثل مجالس الصلح، وسطاء محليين، ولجان أهلية. في سوريا، يعني هذا إشراك الشيوخ والوجهاء وممثلي العشائر والطوائف، وحتى بعض قادة الفصائل السابقة لضبط النزاعات ومنع تصعيدها.
5. التحكم بسردية الخوف: إدارة الخطاب الإعلامي والسياسي بحيث يقلل من الهلع والفزع، تشجيع الناس على العودة لمنازلهم، إعادة فتح الأسواق، والاستمرار في التعليم والعمل. إدارة الهشاشة هنا لا تعني فقط إدارة القرارات، بل أيضًا إدارة الوعي العام لمنع انزلاق المجتمع إلى دوامة الفوضى الناتجة عن الشائعات والتخويف والانقسامات.
تكمن أهمية هذا المعيار في أنه خلال لحظات الهشاشة، قد تقف الإدارة على حافة الانهيار الكامل. لكنها إذا عرفت كيف تدير هذه المرحلة بذكاء، تستطيع أن تبني تدريجيًا شرعيتها السياسية والمجتمعية، وتجذب الدعم الدولي، وتهيئ الأرضية لمرحلة أكثر استقراراً. الخطير أن كثيراً من الإدارات الانتقالية تركز على الشعارات الكبرى (الدستور، الانتخابات، العدالة) لكنها تفشل في الحد الأدنى من إدارة الهشاشة، فتنهار رغم النوايا الجيدة.
في الحالة السورية، نجد أن الإدارة الانتقالية نجحت جزئياً في خفض مستويات العنف في بعض المناطق (مثل دمشق وبعض المدن الكبرى)، عبر ضبط الفصائل المسلحة وإطلاق مبادرات أمنية مشتركة، لكنها فشلت في السيطرة الكاملة على الميليشيات المحلية التي لا تزال تتحكم بمناطق واسعة من البلاد، وهو ما يجعل الاستقرار هشاً للغاية.
في ما يتعلق بالخدمات الأساسية، أُطلِقت خطط إسعافية لإصلاح شبكات الكهرباء والمياه، لكنها تعثرت بسبب ضعف التمويل وغياب الكوادر المتخصصة.
كذلك، لم تُعتمد حتى الآن خطة متكاملة لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة القديمة أو منع انهيار الاقتصاد الوطني، ما جعل مؤسسات الدولة في وضع أقرب إلى الهياكل الفارغة.
أما في ما يخص النزاعات المحلية، فقد اعتمدت الإدارة على جهود محدودة ومبادرات فردية دون وجود استراتيجية وطنية شاملة.
أخيراً، لم تنجح الإدارة حتى الآن في التحكم بسردية الخوف، إذ لا يزال الخطاب العام يحمل نبرة قلق وتحريض وانقسام، مما يمنع المجتمع من استعادة الإحساس بالاستقرار.
—
4.3 إشارات الانفتاح
إشارات الانفتاح لا تعني أن الإدارة الانتقالية أنجزت إصلاحًا ديمقراطياً كاملاً، بل تشير إلى وجود إرادة سياسية للخروج من منطق الحكم الأحادي والانغلاق. يمكن تفكيك معيار إشارات الانفتاح إلى خمسة عناصر تحليلية:
1. إطلاق رسائل طمأنة سياسية: تشمل تصريحات رسمية تعترف بتعددية المجتمع، الامتناع عن شيطنة المعارضة أو وصفها بالخيانة والعمالة، والتأكيد على الالتزام بحقوق الأقليات والفئات المهمشة. في الحالة السورية، يكون المقياس الأساسي هنا هو ما إذا كان الخطاب الرسمي قد تخلّص من نبرة التخوين الطائفي وبدأ بالاعتراف بمعاناة الجميع، بمن فيهم المعارضون للنظام القديم.
2. إشراك ممثلي المجتمع المدني: وجود لقاءات حقيقية وليس شكلية مع قادة المجتمع المدني، النقابات، الجمعيات الأهلية، وفتح قنوات لطرح المقترحات وانتقاد السياسات. في سوريا، يعني هذا ألا تحتكر الإدارة ملفات الإغاثة والمصالحة، بل تفتح المجال للجان الأهلية والمنظمات وحتى المبادرات الشعبية.
3. فتح قنوات مع أطياف المعارضة: إجراء تفاهمات مع شخصيات وتيارات معارضة من الخارج والداخل، بناء ائتلافات سياسية عريضة بدل الاعتماد على لون سياسي واحد، والاستعداد الجدي لتقاسم السلطة. في سوريا، يتمثل هذا في الانفتاح على معارضة الخارج ودعوة معارضي الداخل للعودة دون خوف، وتشكيل حكومة وحدة انتقالية تضم شخصيات معارضة.
4. مرونة في الخطاب الرمزي: تغيير الرموز والشعارات الرسمية لتعكس شمولية أكثر، والابتعاد عن خطاب أيديولوجي أو حزبي ضيق. في الحالة السورية، يعني ذلك مثلًا تغيير شعارات النظام القديم، واعتماد شعارات تركز على التعددية والمواطنة.
5. خطوات انفتاح إعلامي واتصالي: إتاحة مساحات إعلامية للرأي الآخر، ظهور شخصيات معارضة في الإعلام الرسمي، والتوقف عن مطاردة الناشطين والصحفيين المستقلين. في سوريا، يشمل هذا السماح بقنوات إعلامية جديدة، تنظيم ندوات مفتوحة، أو عدم ملاحقة الصحفيين.
تكمن أهمية هذا المعيار في أنه يرسل رسائل طمأنة للمجتمع والمعارضة والداعمين الدوليين بأن الإدارة لا تنوي احتكار السلطة إلى الأبد.
غياب هذه الإشارات يؤدي إلى عزلة داخلية وخارجية، زيادة المخاوف، وانغلاق المجال العام، وبالتالي تفجّر الأزمات مجددًا.
عند تطبيق هذا الإطار على الحالة السورية، نلاحظ أن الإدارة الانتقالية أعلنت نيتها تبني خطاب تصالحي، لكنها في الممارسة العملية لم تُخرج خطابها السياسي الرسمي من نبرة التهميش، اللقاءات مع المجتمع المدني لا تزال شكلية، وتغيب عنها القنوات الفعالة للتشاور الحقيقي، بينما في ملف المعارضة، فشلت الإدارة في بناء تحالفات واسعة، مكتفية بالتفاوض مع أطراف محددة دون الانفتاح على تيارات الداخل والخارج.
على الصعيد الرمزي، لم تُشهد بعد تغييرات حقيقية في الشعارات أو الرموز الرسمية، بينما في المجال الإعلامي، ورغم وجود بوادر محدودة للانفتاح، لا تزال معظم المنابر تحت السيطرة الحكومية الصارمة.
4.4 إدارة الدعم الدولي
في أي مرحلة انتقالية، لا يمكن لإدارة محلية أن تنجح دون انفتاح على الخارج، لكنها أيضًا لا تستطيع أن تبيع سيادتها وثرواتها مقابل هذا الدعم.
استناداً إلى العناصر التالية يمكن تحليل هذا المعيار:
1. القدرة على التفاوض الذكي: امتلاك فريق تفاوض محترف يفهم الديناميكيات الدولية ويستطيع التعامل مع القوى الكبرى (الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين، تركيا، إيران…)، ورسم حدود واضحة لما هو مسموح وما هو مرفوض في التنازلات السياسية والاقتصادية. في سوريا، لا يكفي قبول الدعم من جهة واحدة (مثل روسيا أو إيران أو الخليج)، بل يجب ضمان أن هذا الدعم لا يتحول إلى سيطرة أو نفوذ استعماري مقنّع.
2. تنويع مصادر الدعم: الاعتماد على أكثر من جهة داعمة لتجنّب التبعية لطرف واحد، ووضع استراتيجية لجذب استثمارات متنوعة من الشرق والغرب، من الدول والشركات والمنظمات. في سوريا، غياب هذه الاستراتيجية يعرض الإدارة لخطر الارتهان لمحور محدد.
3. حماية السيادة الوطنية: وضع خطوط حمراء لحماية الموارد والثروات الوطنية (النفط، الغاز، المرافئ…)، وضمان وجود معايير شفافة في منح العقود والامتيازات، مع رقابة وطنية فعالة. يجب ألّا تُمنح السيطرة على المرافئ أو الحقول النفطية أو العقود الكبرى مقابل دعم عسكري أو سياسي سري.
4. إدارة المساعدات الإنسانية والتنموية: وجود خطة وطنية واضحة لتوزيع المساعدات الدولية، مع مراقبة كيفية استخدام الأموال والمنح لضمان وصولها إلى المستحقين، وإشراك منظمات المجتمع المدني في إدارتها. الخطر الأكبر هنا هو ترك المساعدات تقع في يد الفساد أو استخدامها كأداة سياسية.
5. الانخراط الإيجابي في المنظومة الدولية: الانفتاح على العمل مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وتطبيق المعايير الدولية (حقوق الإنسان، الشفافية، مكافحة الفساد)، واستثمار الموقع الجيوسياسي للبلاد لتكون شريكًا لا تابعًا.
تكمن أهمية هذا المعيار في أن الدعم الدولي يمكن أن يصبح أداة لبناء الاستقلال والسيادة إذا أُدير بحكمة، لكنه قد يتحول إلى مدخل لفقدان القرار الوطني إذا أُهمل أو أُسيء التعامل معه.
عند تطبيق هذا الإطار على الحالة السورية، نجد أن الإدارة الانتقالية أبدت مرونة في التفاوض مع بعض الأطراف الدولية، لكنها لا تزال تفتقر إلى فريق محترف قادر على إدارة الملفات الكبرى بفعالية.
كما تعتمد الإدارة حالياً على مصادر دعم محدودة (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي)، مع غياب واضح لاستراتيجية تنويع الدعم.
الأخطر، هناك تقارير عن منح امتيازات كبرى لشركات أجنبية مقابل دعم سياسي وعسكري، مما يثير مخاوف حول مستقبل السيادة الوطنية.
كذلك، لا توجد حتى الآن خطة وطنية واضحة لإدارة المساعدات الإنسانية، مما جعلها عرضة للفساد والزبائنية.
كما أن انخراط الإدارة في المنظومة الدولية لا يزال جزئياً ومحدوداً.
—
4.5 الأولويات القصيرة المدى
في المراحل الانتقالية، لا تملك الإدارة الجديدة ترف الانشغال بالمشاريع الكبرى فورًا؛ بل المطلوب منها أولًا هو إطفاء الحرائق العاجلة وضمان استمرار حياة السكان بكرامة.
استنادًا إلى الأدبيات، يمكن تفكيك هذا المعيار إلى خمسة عناصر رئيسية:
1. الأمن الغذائي: وجود خطة لضمان توافر الغذاء الأساسي بأسعار معقولة، عبر دعم الأفران، تأمين التوريد، ضبط أسعار المواد الأساسية، وتفعيل شبكات المساعدات للأسر الهشة (مثل القسائم الغذائية، والدعم المباشر). في سوريا، يعني هذا ضمان توافر الخبز، الطحين، والزيت، حتى في المناطق النائية أو التي يصعب الوصول إليها، دون تركها رهينة التجار أو أمراء الحرب.
2. تأمين مياه الشرب والصحة العامة: إصلاح شبكات المياه والصرف الصحي بشكل إسعافي، التركيز على إعادة فتح المستشفيات والمراكز الصحية الأساسية، وتنفيذ حملات سريعة للسيطرة على الأوبئة والأمراض الناتجة عن الحرب وسوء التغذية. في سوريا، قد يعني هذا إعادة تأهيل مراكز صحية صغيرة أو نشر فرق ميدانية لتوزيع الأدوية واللقاحات.
3. التعليم الأساسي: فتح المدارس بسرعة لتفادي ضياع أجيال كاملة، مع خطط لإعادة المعلمين وإصلاح الأبنية المدرسية بأبسط الوسائل، ووضع خطط إسعافية للأطفال النازحين والمحرومين. لا نتحدث هنا عن إصلاح النظام التعليمي كله، بل عن تأمين مقاعد دراسية ومناهج إسعافية للأطفال المحرومين من التعليم.
4. توفير الطاقة والنقل الأساسيين: وجود خطة لضمان وصول الكهرباء (حتى لساعات محددة) إلى المناطق الحيوية، وإصلاح الطرق الرئيسية لضمان تدفق الإمدادات وربط المدن والقرى. في سوريا، يعني هذا استهداف خطوط الكهرباء التي تخدم المستشفيات، والطرق التي تربط مراكز التوزيع بالأسواق.
5. حماية الفئات الهشة: وضع برامج سريعة لدعم الأرامل، الأيتام، الجرحى، والمعوّقين، وتنفيذ تدخلات تمنع الاستغلال (عمالة الأطفال، تجنيد القاصرين، الاتجار بالبشر)، بإشراك منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والبلديات، بدل الاعتماد فقط على أجهزة الدولة المتهالكة.
تكمن أهمية هذا المعيار في أن الشعارات الكبرى لا تُشبع الناس، ولا تمنع الفوضى.
يحتاج الناس أولًا إلى الإحساس بأن حياتهم اليومية يمكن أن تستمر: أن هناك خبزًا، ماءً، دواءً، ومقعدًا في المدرسة.
الإدارة الانتقالية الذكية تعرف كيف ترتب أولوياتها بذكاء، بدل الوقوع في فخ المشاريع الرمزية التي لا تنعكس فعليًا على حياة السكان.
عند تطبيق هذا الإطار على الحالة السورية، نلاحظ أن الإدارة أطلقت برامج إسعافية لتأمين الخبز والدواء والوقود، لكنها واجهت عقبات بسبب الفساد وضعف القدرة الإدارية.
جهود إصلاح البنية التحتية الصحية والتعليمية لا تزال بطيئة، رغم المبادرات المحدودة، مع تركيز على مناطق معينة دون غيرها.
ولم يُعتمد بعد برنامج وطني لحماية الفئات الهشة التي أطلقتها بعض البلديات والمنظمات المحلية.
4.6 بناء الثقة المجتمعية
لا تستطيع الإدارة الانتقالية تحقيق الاستقرار فقط بالقوة العسكرية أو بالخدمات الإدارية؛ فبدون استعادة الثقة بين المكونات المجتمعية، ستبقى هشاشتها مهددة في كل لحظة.
حسب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، يمكن تقييم هذا المعيار من خلال العناصر التالية:
1. عودة المهجرين واللاجئين: وجود خطة وطنية لإعادة المهجرين داخلياً واللاجئين الخارجيين، مع ضمانات أمنية وقانونية مثل ضمان عدم الاعتقال أو الانتقام لتشجيع العودات الآمنة، وتخصيص موارد لإعادة تأهيل مساكنهم ومناطقهم. في سوريا، يعني ذلك إخلاء المساكن المستولى عليها بالقوة، وتعويض العائدين، وخلق بيئة ترغّبهم بالعودة بدل دفعهم للهجرة مجددًا.
2. معالجة ملف المعتقلين والمختفين: فتح ملفات المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي، إنشاء لجان تحقيق لكشف مصير المختفين قسريًا، ووضع سياسات واضحة للتعويضات وجبر الضرر للضحايا وذويهم. في سوريا، لا يمكن بناء أي ثقة مجتمعية إذا لم يُعالج جرح المعتقلين والمختفين، وهو من أعمق الجراح في الذاكرة الوطنية.
3. إطلاق عمليات مصالحة مجتمعية: وجود آليات محلية مثل مجالس الصلح، لجان مجتمعية، وسطاء محليون لتصفية النزاعات الأهلية، وطرح برامج للعدالة الانتقالية والاعتراف المتبادل بالخطأ. في سوريا، يعني ذلك عدم الاكتفاء بمصالحات صورية، بل الدخول في عمليات حوار حقيقي تشمل الريف والمدينة، العشائر والطوائف، الفئات العرقية والمذهبية.
4. تمكين القوى الأهلية والدينية: إشراك رجال الدين، الوجهاء، قادة المجتمع المحلي في القرارات، ومنح البلديات واللجان الأهلية صلاحيات حقيقية لا مجرد أدوار شكلية، مع دعم المبادرات المحلية التي يقودها الأهالي بأنفسهم.
5. إحياء الذاكرة المشتركة: إطلاق مبادرات لإحياء الذاكرة الوطنية الجامعة مثل نصب تذكاري لضحايا الحرب من كل الأطراف، إعادة إنتاج الخطاب الوطني بشكل يبتعد عن لغة المنتصر والمهزوم، واعتماد مناهج تعليمية وإعلامية تصالحية بدل خطاب الكراهية. في سوريا، لا يتحقق هذا إلا إذا خرج الخطاب الرسمي من ثنائية “نحن المنتصرون” مقابل “هم الخونة”، واعترف بكل معاناة السوريين، أياً كانت مواقعهم.
تكمن أهمية هذا المعيار في أن النجاحات الأمنية أو الإدارية بلا مصالحة مجتمعية تشبه بناء بيت فوق رمال متحركة.
الإدارة الانتقالية الناجحة تفهم أن بناء الثقة لا يتم بالخطابات فقط، بل بخطوات ملموسة يشعر بها الناس في حياتهم اليومية: عودة إلى القرى، اجتماع الأسر الممزقة، شعور بالأمان في الأحياء، وإيمان بأن أصواتهم مسموعة.
عند تطبيق هذا الإطار على الحالة السورية، نجد أن الإدارة الانتقالية أعلنت نيتها إعادة اللاجئين والمهجرين، لكنها لم تتخذ خطوات ملموسة لضمان عودتهم الآمنة، ولا تزال قضايا الاستيلاء على الممتلكات عالقة.
ملف المعتقلين والمختفين شبه غائب عن الخطاب الرسمي، مما يزيد من فجوة الثقة مع ذويهم.
المصالحات المجتمعية تجري بجهود محلية محدودة ودون دعم كافٍ من الإدارة المركزية، كما غابت حتى الآن المبادرات الرمزية لإحياء الذاكرة الوطنية المشتركة أو الاعتراف بمعاناة جميع الأطراف.
—
4.7 وضوح الرؤية الانتقالية
من أكبر أخطاء المراحل الانتقالية أن تبدو وكأنها مرحلة مفتوحة إلى ما لا نهاية، أو كأنها مجرد “إدارة أزمة” بلا أفق واضح.
يمكن تلمس هذا المعيار من خلال خمسة عناصر رئيسية:
1. وجود وثيقة سياسية أو إعلان دستوري واضح: تحدد السلطات والصلاحيات، وتوضح المبادئ الحاكمة (المواطنة، حقوق الإنسان، التعددية، مدنية الدولة). في سوريا، قد يعني هذا صياغة إعلان دستوري مؤقت بمشاركة أوسع عدد ممكن من القوى الوطنية ليكون الأساس القانوني والسياسي للمرحلة.
2. وجود جدول زمني واضح: تحديد خطة زمنية محددة مثلاً: ستة أشهر لترتيب الانتخابات، سنة للدستور، سنتان لإعادة بناء المؤسسات، مع إعلان المواعيد المفصلية وآليات الرقابة لضمان الالتزام بها. غياب المواعيد يخلق شعورًا بأن الإدارة ستبقى للأبد.
3. تعريف واضح للغايات الكبرى للمرحلة: هل الهدف هو الوصول إلى انتخابات نزيهة؟ إلى دستور جديد؟ إلى مصالحة وطنية؟ هل تُطرح رؤية متكاملة للمؤسسات التي ستُبنى (جيش، شرطة، برلمان)؟ في سوريا، كثير من الخطابات السياسية تبقى شعارات عامة مثل “بناء سوريا لكل السوريين”، دون تفصيل عملي: أي سوريا تُبنى؟ مركزية؟ اتحادية؟ علمانية؟ متعددة الثقافات؟
4. مشاركة مجتمعية في رسم الرؤية: إشراك أطياف المجتمع (أحزاب، منظمات مدنية، نقابات، شباب، أقليات) في صياغة الرؤية من خلال نقاشات عامة، مشاورات محلية، استطلاعات رأي، ومنتديات حوار. لا يمكن فرض رؤية جاهزة من فوق؛ يجب أن يُشارك الجميع في الحديث عن المستقبل المشترك.
5. التواصل المستمر حول الرؤية: شرح الخطوات والخطط بوضوح للناس، إطلاق حملات إعلامية شفافة، إصدار بيانات رسمية دورية لمعالجة الشائعات والمخاوف، وطمأنة المجتمع بأن الإدارة تعرف أين تتجه ومتى. في سوريا، غياب التواصل الفعال يدمر الثقة ويفتح المجال للفوضى والشائعات.
تكمن أهمية هذا المعيار في أن الإدارة الانتقالية التي لا تملك رؤية واضحة تتحول بسرعة إلى سلطة ضبابية تثير مخاوف الداخل والخارج.
وضوح الرؤية لا يمنع التحديات، لكنه يقلل الفوضى، يطمئن المجتمع، ويمنع ظهور أمراء حرب أو قوى ظل تملأ الفراغ.
الرؤية الواضحة تعطي معنى للمرحلة، وتحوّلها من عبور فوضوي إلى بناء فعلي لدولة جديدة.
عند تطبيق هذا الإطار على الحالة السورية، نجد أن الإدارة الانتقالية تفتقر إلى رؤية واضحة ومع وثيقة سياسية جامعة، ولا جدول زمني محدد للانتقال، ولا خارطة طريق تحدد المراحل النهائية.
غياب التواصل الفعّال مع المجتمع يفتح المجال للشائعات والمخاوف، ويعزز الشعور بأن الإدارة الحالية مجرد سلطة أمر واقع لا تحمل مشروعًا وطنيًا جامعًا.
5. المناقشة
يُظهر تحليل الحالة السورية أن الإدارة الانتقالية تواجه تحديات معقدة ومركبة، بعضها مشترك مع تجارب انتقالية أخرى (مثل تونس ومصر)، وبعضها مرتبط بخصوصية السياق السوري، وخصوصاً حجم التدمير، وطول أمد النزاع، وتشظي الفاعلين.
—
5.1 المقارنة مع التجارب العربية
ساعد وجود نخبة سياسية توافقية ونقابات قوية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل على تجاوز مرحلة الهشاشة في تونس، رغم الانقسامات الإيديولوجية.
في المقابل، تعثرت مصر بعد الثورة بسبب غياب التوافق الوطني، وسيطرة الجيش على مسار العملية الانتقالية، مما قاد إلى عودة النظام السلطوي.
مقارنة بهذه التجارب، تبدو سوريا أكثر هشاشة بسبب غياب المؤسسات الوسيطة (النقابات، الأحزاب المستقرة)، واعتمادها على ترتيبات عسكرية – سياسية غير مؤسسية.
—
5.2 المقارنة مع التجارب الدولية
في رواندا، بعد الإبادة الجماعية، لعبت الدولة دورًا مركزيًا في فرض الاستقرار، لكنها جمعت بين يدٍ أمنية قوية ومشاريع للمصالحة الوطنية مثل محاكم الغاتشاكا.
بينما في البوسنة بعد اتفاق دايتون، قاد غياب رؤية وطنية مشتركة إلى حالة جمود سياسي ما زالت مستمرة حتى اليوم.
في الحالة السورية، لا تزال الإدارة الانتقالية تفتقر إلى مشروع وطني متماسك يجمع بين قوة الدولة وعمق المصالحة المجتمعية، وتعاني من غياب المؤسسات القادرة على احتواء الانقسامات العرقية والطائفية.
—
5.3 السمات الخاصة بالحالة السورية
1. حجم التدخل الخارجي والتعدد الحاد في الفاعلين الدوليين.
2. تشظي القوى العسكرية الداخلية ووجود ميليشيات محلية عابرة للحكومة الانتقالية.
3. غياب الذاكرة الوطنية المشتركة بسبب طول أمد الصراع وتعمق الانقسامات المجتمعية.
4. هشاشة الاقتصاد الوطني وانهيار قيمة العملة، مما يجعل أي إصلاح إداري مشروطًا بنجاح اقتصادي سريع.
—
5.4 الدروس المستخلصة
من خلال المقارنة، يمكن القول إن الإدارة الانتقالية في سوريا تحتاج إلى:
1. بناء عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف المواطنة والهوية الوطنية.
2. تطوير مؤسسات انتقالية مرنة قادرة على احتواء الفاعلين المحليين والمجتمعيين.
3. وضع رؤية استراتيجية واضحة ومعلنة للانتقال السياسي والدستوري.
4. تعزيز الانفتاح الإعلامي والسياسي، وإشراك كل الأطراف الفاعلة.
5. إدارة الدعم الدولي بحكمة لضمان عدم تحوله إلى أداة للوصاية.
—
الخاتمة والتوصيات
الخاتمة
أظهرت هذه الدراسة أن تقييم أداء الإدارة الانتقالية في سوريا يتطلب اعتماد معايير موضوعية متعددة، تشمل الشرعية، إدارة الهشاشة، الانفتاح السياسي، إدارة الدعم الدولي، الأولويات العاجلة، بناء الثقة المجتمعية، ووضوح الرؤية المستقبلية.
لا يمكن الحكم على إدارة انتقالية خارجة من نزاع مدمر بمقاييس الدول المستقرة، بل يجب قياس قدرتها على الصمود، منع الانهيار، وفتح مسارات تدريجية نحو الاستقرار والديمقراطية.
كشفت المقارنة مع تجارب عربية ودولية مماثلة أن النجاح لا يتحقق بمجرد إسقاط النظام القديم أو توقيع اتفاقات سياسية، بل يحتاج إلى بناء عقد اجتماعي جامع، وإطلاق عمليات مصالحة حقيقية، وتطوير مؤسسات قادرة على احتواء التعقيد المحلي والدولي.
في سوريا، لا تزال هذه العناصر غائبة أو هشّة، مما يهدد بإطالة أمد المرحلة الانتقالية وتحويلها إلى حالة مزمنة من اللااستقرار.
—
التوصيات
الإدارة الانتقالية:
إطلاق خطة وطنية متكاملة لإدارة الهشاشة تشمل ضبط الأمن، تأمين الخدمات الأساسية، ومنع الانهيار الاقتصادي.
الانفتاح الحقيقي على المجتمع المدني والمعارضة السياسية، بما يشمل إجراء مشاورات عامة وإشراك الفاعلين المحليين.
معالجة ملفات اللاجئين، المعتقلين، والمختفين كأولوية لبناء الثقة المجتمعية.
وضع جدول زمني واضح للانتقال، مع مراحل محددة يمكن مساءلة الحكومة الانتقالية عليها.
المجتمع المدني:
ممارسة الضغط باتجاه شفافية القرارات الحكومية، ورقابة توزيع المساعدات، وتفعيل قنوات المشاركة المجتمعية.
إطلاق مبادرات محلية للحوار والمصالحة، تربط بين القرى والمدن المختلفة وتعيد بناء النسيج المجتمعي.
المجتمع الدولي:
تقديم دعم مشروط بالإصلاحات الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، بدلًا من الانخراط في حسابات النفوذ والصراع الجيوسياسي.
تنسيق المساعدات الإنسانية والإنمائية لضمان وصولها إلى المستحقين، ومنع استغلالها من الأطراف المسلحة أو الفاسدة.
دعم عمليات بناء القدرات في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، لضمان استدامة الاستقرار بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.
إعداد: عبد القادر الموحد – عضو المكتب السياسي ـ المستشار العام لحزب الوطن السوري
—
المراجع
1. الكواري، علي خليفة. الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012.
2. الشوبكي، عمرو. “إشكاليات الانتقال الديمقراطي في المجتمعات المنقسمة”. في: الكواري، علي خليفة (تحرير)، الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012.
3. بشارة، عزمي. في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.
4. جمال الدين، عمار. العدالة الانتقالية: المقاربات النظرية والتطبيقات العملية. بيروت: منتدى المعارف، 2017.
5. مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. المصالحات الوطنية في العالم العربي: بين الحقيقة والوهم. القاهرة، 2015.
6. الزعاترة، ياسر. “تجربة تونس ومصر: دروس التحول الديمقراطي”. السياسة الدولية، العدد 187، 2012.
7. United Nations. Guidance Note of the Secretary-General: United Nations Approach to Transitional Justice. New York: United Nations, 2010.
8. Roland Paris. At War’s End: Building Peace After Civil Conflict. Cambridge: Cambridge University Press, 2004.
9. Marina Ottaway. Democracy Challenged: The Rise of Semi-Authoritarianism. Washington, DC: Carnegie Endowment for International Peace, 2003.