في ظل المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا يبدو النضج السياسي ضرورة ملحة وأساسية في عملية بناء وطن جديد فقد عانت البلاد طويلا من الصراعات والانقسامات وآن الأوان للانتقال إلى مرحلة الوعي والمسؤولية الجماعية فإعادة الإعمار لا تعني فقط ترميم المباني والطرق بل تشمل أيضا ترميم الوعي السياسي وبناء ثقافة مدنية تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
النضج السياسي هو القدرة على فهم الواقع واتخاذ المواقف المبنية على المصلحة العامة وليس على ردود الفعل العاطفية أو التبعية العمياء وهو ما يسمح بتعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية ويقلل من فرص الانجرار وراء الشعارات الجوفاء التي لا تخدم إلا مصالح ضيقة المواطن الناضج سياسيا لا يكتفي بالتصويت بل يتابع ويراقب ويسأل ويحاسب ويطالب بحقوقه دون أن يعتدي على حقوق الآخرين.
لقد علمنا التاريخ أن المجتمعات لا تنهض بدون وعي سياسي حقيقي فالثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ لم تكن فقط لحظة غضب شعبي بل شكلت نقطة تحول نحو بناء مجتمع جديد قائم على الحرية والمساواة والعدالة كانت لحظة وعي ساهمت في تغيير طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وكذلك الثورة السورية رغم ما مرت به من تعقيدات وتدخلات خارجية إلا أنها كانت لحظة كسر للصمت وولادة لوعي جديد لدى ملايين السوريين الذين طالبوا بالكرامة والحرية والعدالة.
لكن هذا الوعي لم يولد في فراغ بل جاء بعد عقود من القمع والخوف وهيمنة الحزب الواحد حيث ساد الخوف من التعبير عن الرأي وغابت التعددية وتم تسخير التعليم والأعلام لتمجيد السلطة وإبعاد الناس عن السياسة كما عزز الفساد الياس وشعور المواطنين بعدم جدوى أي مشاركة وهو ما أدى إلى تراجع الحس بالمسؤولية العامة والانكفاء على المصالح الفردية.
رغم كل ذلك كان هناك أمل تجسد في الأصوات التي خرجت تطالب بالتغيير وفي الحركات المدنية التي ظهرت خلال السنوات الماضية وفي الوجوه الجديدة التي بدأت تطرح أفكارا مختلفة حول مستقبل سوريا ومن بين هذه الأصوات كانت المرأة السورية التي لعبت دورا بارزا منذ بداية الحراك من خلال المشاركة في التظاهرات والإعلام والتوثيق والعمل الحقوقي وحتى في المفاوضات السياسية ورغم كل أشكال التهميش والعنف لم تتراجع بل اثبتت إنها جزء أساسي من المعركة من أجل وطن عادل للجميع.
النضج السياسي لا يعني أن نتفق على كل شيء بل أن نحترم اختلافنا ونتعلم كيف نختلف دون أن نتقاتل وأن نضع مصلحة الوطن فوق الانتماءات الضيقة وأن نبني مؤسسات تشجع على المشاركة والشفافية وتضمن المحاسبة وتكافؤ الفرص وأن نزرع في الأجيال القادمة قيمة الحوار واحترام القانون والعمل الجماعي.
سوريا لا يمكن أن تنهض إلا بسوريين واعين بقيمة وطنهم وبدورهم في حمايته وتطويره فالنضج السياسي ليس رفاهية بل هو شرط من شروط النهوض والخروج من الأزمات وهو الأرضية التي يجب أن نقف عليها جميعا لنبني سوريا الجديدة سوريا لكل أبنائها دون إقصاء ولا استبداد ولا خوف.
فاطمة الفرج- عضوة قيادة مكتب المرأة في حزب الوطن السوري