نحن السوريين نحمل إرثا حضاريا يُعد من بين الأثقل والأعمق في تاريخ البشرية ممالك ماري وإيبلا وأوغاريت، إلى دمشق، أقدم عاصمة مأهولة عرفها التاريخ من الأبجدية الأولى إلى موسيقى الشرق، ومن أولى التشريعات المدونة إلى الحكايات التي رسمت ملامح الحضارة ومع كل هذا الغنى، تحوّل هذا التاريخ إلى عبء نستحضره حين نُهزم، ونتغنى به حين نفتقر للحلول، لا لنستلهم منه، بل لنخفي به هشاشتنا.
صرنا نعيش انفصاما حادا بين ما نردده وما نفعله نفاخر بماضٍ لا نفهمه، ونتشدق بهوية لا نحميها، وننظر من علٍ إلى الآخرين بينما نغرق في فوضانا وتخلفنا. نرفع شعارات الانتماء حين نُحرج، وننقلب عليها حين لا تخدم مصالحنا ندّعي أننا “قلب المنطقة”، في الوقت الذي بالكاد نحافظ فيه على نبض الحياة داخلنا.
قرون من الاحتلال والاستبداد تركت فينا جراحًا لم تندمل. من العثمانيين إلى الفرنسيين، ثم إلى سلطات استبدادية لبست لبوس الوطنية، لكنها فرّغت الوطن من روحه، وأفرغت المواطن من إرادته اعتدنا العيش في الظلال، وأتقنّا المراوغة والنفاق كوسائل للبقاء. وتحت وطأة القهر، ترسخت فينا سلوكيات لا تليق بشعب بهذا العمق الحضاري تقديس الحاكم بلا عقل، السخرية من المختلف، والتخوين بدل الحوار.
نطالب العالم باحترامنا، بينما نحن لا نحترم أنفسنا نثور على تصريح نائبة أو مقال صحفي، فنهاجم الشخص لا الفكرة، ونرد على النقد بالسباب لا بالحجة. نجلد من يقول الحقيقة، ونتمسك بكذبة مريحة بدل أن نواجه مرارة الواقع.
ورغم هذا المشهد القاتم، فإن الصورة لم تكتمل بعد السوري الذي صمد في وجه الحرب، وهاجر ثم نجح وابتكر، ليس استثناءً السوري الذي تطوّع وعلّم وأسس مبادرات رغم الركام، ما زال حاضرا بيننا فالتاريخ لم تصنعه قصور الحكم وحدها، بل ساهم في صياغته الفلاحون والكتّاب والمعلمون والتجار والبسطاء لا نحتاج إلى تمجيد الذات ولا إلى جلدها، بل إلى مصالحة حقيقية معها، وإعادة تعريف المواطنة بعيدًا عن الأيديولوجيا والزعيم.
ما نحتاجه هو مشروع وطني جامع، لا يقفز فوق الذاكرة ولا يلغي أحدا، بل يكرّس احترام التنوع ويؤمن بأن سوريا ليست ملك طائفة ولا حزب ولا نخبة، بل هي وطن شعب يبحث عن كرامته يجب أن نعيد الاعتبار للعلم بدل السلاح، وللوعي بدل الشعارات، وللتربية بدل الثأر.
التغيير لا يأتي من الخارج، بل يبدأ من داخلنا، حين نربّي أبناءنا على احترام المختلف، لا ازدرائه. حين نُحيي ثقافة الحوار بدل التنابز، وحين نستعيد ثقتنا بأنفسنا، لا لنستعلي، بل لننهض.
سوريا ليست دولة فاشلة، لكنها أُنهكت كثيرا وحان الوقت كي تُشفى. لا بيد غيرنا، بل بأيدينا نحن.
بقلم : وليم حمدان – عضو قيادة فرع طرطوس لحزب الوطن السوري