مرت سوريا بتجربة مريرة خلال السنوات الماضية، تجربة قلبت موازين الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هذه التجربة دفعتنا إلى سؤال أساسي: كيف يمكننا إعادة بناء الإنسان السوري بعد كل ما لحق به من دمار؟ هل يمكننا أن نعيده إلى مكانته الطبيعية كمواطن قادر على بناء وطنه، أم أننا سنظل ندور في دوامة الانقسامات والآلام؟
إعادة بناء الإنسان السوري ليس مسألة بسيطة، ولا يجب أن تقتصر على الإصلاحات السياسية أو الاقتصادية فقط، بل هي مسألة إنسانية بحتة تتعلق بترميم الفكر، والمشاعر، والقيم، فإعادة بناء الإنسان السوري تبدأ من داخل النفس، عبر الوعي العميق بأن الوطن لا يمكن أن ينهض إلا إذا نهض الإنسان أولاً. وهذا لا يتحقق بالكراهية، ولا بالظلم، ولا بالتحريض الطائفي. بل، من خلال الوعي، التربية، العدالة، والمحبة.
في هذه اللحظة التاريخية، نحن بحاجة إلى خطاب وطني جامع. خطابٌ يلامس هموم السوريين جميعًا، ويعترف بأن السوريين، على اختلاف طوائفهم وأعراقهم، قد دفعوا الثمن باهظًا جراء الحروب والنزاعات، هذا الخطاب يجب أن يعزز الهوية الوطنية التي لا تقوم على التفريق أو الإقصاء، بل على التعاون والاحترام المتبادل، في هذه المرحلة، القانون هو الضمانة الأساسية التي تحمي الجميع، وتحافظ على المساواة بين المواطنين، وتردع أي محاولة لبث الفتنة أو نشر الكراهية.
إن بناء الوطن لا يتم بالتمسك بالشعارات الطائفية أو القومية التي تفرق بين الناس، بل بالتلاحم، بالعدالة، وبإعلاء قيم الإنسانية، من يرفع شعارات تحريضية ضد أي فئة من الشعب السوري، إنما يقوض الاستقرار ويعوق أي فرصة للمستقبل، ولذلك، لا بد من تحصين المجتمع من هذه الفتن عبر تفعيل قوانين صارمة تقطع الطريق أمام كل من يسعى لتفريق الشعب السوري.
لا يمكن الحديث عن بناء الإنسان السوري دون الحديث عن المرأة السورية، التي كانت ولا تزال ركيزة أساسية للمجتمع. على مر التاريخ، كانت المرأة السورية هي القوة المحركة في الأسرة والمجتمع، في هذا الوقت، يجب أن نكفل للمرأة السورية الدور الذي تستحقه في عملية البناء، سواء كان ذلك في البيت أو في المجتمع أو في السياسة، إن دور الأحزاب السياسية في دعم المرأة وحقوقها لا يقل أهمية عن أي جانب آخر في إعادة بناء الدولة السورية.
حزب الوطن السوري، مثل غيره من الأحزاب التي تؤمن بالوطن والمواطن، يجب أن يتبنى مشروعًا تمكينيًا للمرأة، يعزز من مشاركتها السياسية والاجتماعية، لابد من إقرار برامج تعليمية، اقتصادية، وصحية تعمل على دعم المرأة السورية، لضمان أن تكون قادرة على المشاركة الفعالة في المجتمع وتساهم في بناء أسرتها والمجتمع بأسره.
الركيزة الأساسية لبناء إنسان سوري قوي وفاعل تكمن في دستور جامع يحترم حقوق جميع المواطنين، الدستور الذي يضمن المساواة بين الجميع، ويحمي حرية التعبير، ويمنح المواطنين الحق في المشاركة السياسية، والعدالة الاجتماعية، والتعليم، والعمل، فالدستور السوري الجديد يجب أن يكون دستورًا شاملاً، عادلًا، يكفل حقوق المرأة، ويعزز من حريات الأفراد، ولا يمكن أن يقوم أي مشروع لبناء الإنسان السوري دون أن يضع المواطن السوري في قلبه، ويمنحه حقوقه كاملة دون تمييز.
التعليم هو أداة أساسية لبناء الإنسان، ولكن يجب أن يكون تعليما يزرع قيم المواطنة، الفكر النقدي، والتعددية، لا يمكن أن يكون التعليم أداة لتأديج العقول أو لتوجيهها نحو فكر معين، بل يجب أن يركز على التحليل، الفهم، والتفاعل مع الواقع بدلاً من فرض إيديولوجيات ضيقة، وإن المؤسسات التعليمية يجب أن تكون حاضنة لبناء الإنسان السوري الحر الذي يمكنه مساهمة فعّالة في بناء وطنه.
المؤسسات التعليمية في سوريا، بمختلف مراحلها، يجب أن تركز على تطوير الفكر الحر وتزويد الطلاب بالمعرفة اللازمة ليكونوا مواطنين فاعلين في مجتمع ديمقراطي ومتعدد، كما أن التعليم يجب أن يكون متاحا للجميع بغض النظر عن الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي، فالتعليم هو حق أساسي يجب أن يُصان ويُعزز، لأنه الطريق الوحيد لتحقيق نهضة حقيقية في جميع مجالات الحياة.
إعادة بناء الدولة السورية يتطلب مشروعا حقيقيا يعزز من الإنسان السوري كأولوية، فمشروع الدولة السورية يجب أن يقوم على العدالة، المساواة، والتنمية المستدامة، ويجب أن تكون حاضنة لحقوق الإنسان، و تحترم حقوق مواطنيها، توفر لهم فرص العمل، وتمنحهم الحق في التعليم والصحة، المؤسسات التي ستؤدي دورا في هذا البناء لا تقتصر على السياسة والاقتصاد فقط، بل تشمل كل المجالات التي ترتقي بالإنسان.
إن استثمار الدولة في الإنسان السوري هو استثمار في المستقبل، هذا الإنسان، القوي، الواعي، والمُتعلم، سيكون هو الأساس في بناء دولة مدنية متقدمة، ولهذا، فإن التعليم الجيد، دعم المرأة، ضمان الحقوق، كلها عوامل أساسية في مشروع بناء الإنسان السوري.
في النهاية، يجب أن نعي أن بناء الإنسان السوري هو بناء للوطن بأسره، الوعي، العدالة، المساواة، هي الأسس التي يجب أن يقوم عليها هذا المشروع، ولا يمكن لأي وطن أن ينهض بدون شعبه، بدون إنسانه الذي يجب أن يشعر بالكرامة والعدالة، فالخطاب الوطني الجامع، التشريعات العادلة، والتعليم الذي يبني عقول الأجيال القادمة، كلها خطوات نحو سوريا جديدة تتسع للجميع، ويعيش فيها كل مواطن في سلام وكرامة.
إن الإنجرار خلف الخطابات التحريضية هو ضرب من ضروب الغباء الجمعي، الوطن يحتاج إلى الوعي، البناء، والتضامن. وحده الإنسان السوري الحر هو الذي يمكنه بناء سوريا قوية ومستقرة، قادرة على مواجهة التحديات وتجاوز المحن.
راما حسين- عضوة المجلس المركزي ورئيسة فرع طرطوس لحزب الوطن السوري.