تُعد الهوية الوطنية للدولة من المفاهيم الجدلية التي تثير تساؤلات حول مدى ارتباط الدولة بهوية عرقية أو ثقافية معينة، خاصة في المجتمعات متعددة القوميات. تنطلق هذه الإشكالية من تعريف الدولة في إطارها القانوني الحديث، والذي يرتكز على ثلاثة أركان أساسية: الأرض، السلطة، والشعب. بناءً على هذا التصور، تبرز مسألة تحديد هوية الشعب السوري، وما إذا كان يجب تصنيفه ضمن مفهوم أوسع يُعرف بـ”الشعب العربي”، أم أن الهوية الوطنية السورية يجب أن تُحدد وفقا لمعايير الدولة الحديثة.
تُعد الهوية مفهوما أساسيا في فهم الأفراد والجماعات، حيث تعكس مجموعة من الخصائص والسمات التي تميز كيانا معينا عن غيره. يُستخدم هذا المصطلح لوصف الانتماءات العرقية، الثقافية، الدينية، والجغرافية التي تشكل وعي الأفراد والمجتمعات. ومع ذلك، يثور التساؤل حول ما إذا كانت الدولة، باعتبارها كيانا قانونيا وسياسيا، تمتلك هوية مماثلة لهوية الأفراد والجماعات، أم أنها مجرد مؤسسة وظيفية تُحدد هويتها من خلال أدوارها ومهامها، وليس من خلال روابط ثقافية أو عرقية محددة.
يمكن تعريف الهوية على أنها مجموعة من الخصائص الجوهرية التي تميز فردا أو جماعة عن غيرهم، وتشمل عناصر مثل اللغة، الدين، العرق، الثقافة، والتاريخ المشترك. الهوية ليست ثابتة، بل تتطور عبر الزمن نتيجة التفاعل الاجتماعي، السياسي، والاقتصادي. ومن هذا المنظور، تُعتبر الهوية عنصرا ديناميكيا يعكس تطور المجتمعات وواقعها المتغير.
وفقا لنظرية الدولة في القانون الدولي، يُشترط لقيام الدولة وجود ثلاثة أركان أساسية، وهي:
1. الأرض: تمثل الرقعة الجغرافية التي تمارس الدولة سيادتها عليها، وتشمل الحدود المعترف بها دوليًا.
2. السلطة: تشير إلى النظام السياسي والإداري الذي يدير شؤون الدولة، ويشمل المؤسسات الدستورية والتشريعية والتنفيذية.
3. الشعب: يُعرّف بأنه الأفراد الذين يحملون جنسية الدولة ويخضعون لقوانينها، وهو ركن جوهري في تحديد هوية الدولة.
فالدولة ليست كيانا بيولوجيا أو ثقافيا بالمعنى الذي يُستخدم لوصف الأفراد والمجتمعات، بل هي مؤسسة وظيفية تُعنى بتنظيم المجتمع وإدارة شؤونه وفقًا للقوانين والمبادئ الدستورية. وبالتالي، لا يمكن ولا يجوز اعتبار الدولة كيانا ذا هوية عرقية أو دينية محددة، بل كيانا يُحدد من خلال وظائفه الأساسية.
في هذا السياق تُعرّف هوية الدولة بناءً على الأدوار والمهام التي تضطلع بها، والتي تشمل حفظ الأمن والاستقرار من خلال القوانين والمؤسسات الأمنية، وضمان الحقوق والحريات لجميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم، وإدارة الاقتصاد والتنمية لضمان الرفاهية والاستقرار الاقتصادي، وتمثيل المجتمع دوليا في العلاقات الدبلوماسية والمنظمات الدولية.
ومن أجل التساوق مع هذا الفهم تتبنى الدول الحديثة مفهوم الدولة المدنية، حيث تُحدد هوية الدولة بناءً على المواطنة والقيم الدستورية، وليس على الانتماءات العرقية أو الدينية. فالولايات المتحدة وكندا، على سبيل المثال، تُعرف هويتهما بناءً على التعددية الثقافية والمواطنة، مما يتيح احتواء جميع الفئات داخل المجتمع دون تمييز.
من ناحية أخرى، فإن التداخل بين الهوية الوطنية والهوية القومية يمثل أحد العوامل التي تساهم في الخلط بين مفهوم “الشعب السوري” و”الأمة العربية”. فالهوية الوطنية تتعلق بالانتماء إلى دولة ذات سيادة وحدود معترف بها، بينما تُشير الهوية القومية إلى ارتباط ثقافي أو لغوي يشمل مجموعة أوسع من الدول أو الشعوب. في السياق السوري، أدى هذا التداخل إلى فرض تصورات أيديولوجية تربط الهوية الوطنية السورية بالمشروع القومي العربي، مما تسبب في هشاشة الدولة الوطنية وتبديد الطاقات وراء أحلام طوباوية.
وفي هذا السياق يمكن ملاحظة جملة من الأخطاء القانونية والسياسية والفلسفية في اعتماد اسم “الجمهورية العربية السورية”. هذه الأخطاء يمكن إجمالها كما يلي:
تضم سوريا مكونات سكانية متعددة، تشمل العرب، الأكراد، الآشوريين، الأرمن، الشركس، والتركمان. هذا التنوع يعكس هوية وطنية مركبة، حيث تتداخل اللغات، العادات، والتقاليد. وعلى الرغم من أن العربية هي اللغة الرسمية، إلا أن هناك لغات أخرى تُستخدم على نطاق واسع، مما يجعل تعريف الهوية السورية بالعربية فقط غير واقعي.
التاريخ السوري موغل في القدم، وقد تعاقبت على سوريا حضارات مثل السومرية، الأكادية، الآرامية، والفينيقية. وقد أسهمت هذه الحضارات في تكوين الثقافة السورية، ولا تزال آثارها واضحة في اللغة، الفنون، والعادات الاجتماعية، وفي اللاوعي الجمعي السوري حسب مصطلح كارل يونغ.
وهنا لا بد من الانتباه إلى أن تحديد الهوية السورية بالعربية قد ترافق مع تجارب تسببت في كثير من القلق والخوف لدى سوريين كثيرين، لما سببته من إقصاء وتهميش وانتهاكات لحقوق الإنسان.
وأخيرا، فإن الظروف السياسية والتاريخية التي أدت إلى نشوء الفكر القومي في القرن الماضي، والتي جعلت من القومية أحد أدوات الصراع والكفاح، قد تبدلت اليوم. ولا يخفى على عاقل أن لكل صراع، ولكل ظرف، أدواته المناسبة التي يجب أن تنتمي إلى مرحلته التاريخية وإلى راهنيته.
في الخلاصة، وبناءً على ما سبق، فإن تعريف الهوية الوطنية للدولة السورية ضمن إطار “الشعب العربي” يثير إشكالية عميقة تمتد جذورها عبر تداخلات القانون والتاريخ والسياسة، حيث يتشابك الماضي مع الحاضر في رسم ملامح هذه الهوية. ورغم أن الثقافة العربية تُشكّل نسيجا حاضرا في الهوية السورية، فإن تعدد الأعراق واللغات والمذاهب يُلقي بظلاله على هذا التصنيف التقليدي، داعيًا إلى إعادة النظر فيه بروح من الإنصاف والشمولية.
فمن منظور قانوني، يبقى الشعب السوري كيانا سياسيا مستقلا، متجذرا في تاريخه ومتفردًا في تكوينه، بعيدا عن محاولات الصهر القومي التي تسعى إلى إدخاله قسرا في إطار أوسع لا يعكس ثراءه وتعقيداته. وعليه، فإن تحقيق العدالة في تعريف الهوية السورية يستوجب تبني رؤية أكثر شمولا، رؤية تعانق التنوع، وتحترم التعددية، وتعترف بهوية وطنية أصيلة، غير خاضعة للأيديولوجيات العابرة للحدود، بل متأصلة في وجدان الشعب وتاريخه العريق.
بقلم: عبدالقادر الموحد – عضو المكتب السياسي المستشار العام لحزب الوطن السوري