من التحديات المتوقعة في المجتمعات التي تمر بمراحل انتقالية من عنف مسلح أو ثورات وحروب إلى مرحلة جديدة، إعادة تشكيل السلم الأهلي وفق رؤية تتجاوز منظور المنتصر في المعركة، لتستند إلى ترتيبات وطنية وإنسانية وسياسية. هذه الترتيبات ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أن إسقاط منظومة قيمية فاسدة يتطلب إعادة بناء البنى السياسية والاجتماعية على أسس المواطنة والعدالة الاجتماعية الانتقالية.
ترك نظام بشار الأسد إرثًا ثقيلا من الطائفية والاحتقان الاجتماعي، مهيئا المجتمع للانفجار. لم تقتصر منظومته الطائفية على منح امتيازات لفئة معينة، بل أسس لنظام زبائني سياسي قائم على توزيع المنافع وفق الولاء، سواء الطائفي أو الحزبي. وبهذا، وجد منتفعون حتى من خارج الطائفة الحاكمة، حيث غدت الامتيازات مرتبطة بالقرب من مركز السلطة أكثر من أي اعتبار آخر.
كرس الأسد نظاما يفرغ الأفراد من أي تصور قيمي عن توجههم السياسي، فالمنافع لم تكن تُمنح بناءً على مفهوم المواطنة، بل وفق مقدار التزلف للنظام، بغض النظر عن مدى عدالة أو إنسانية سياساته. أصبح الولاء للنظام سلعة تُباع مقابل طمس أي مفهوم للدولة كمؤسسة مستقلة عن السلطة الحاكمة، ما أدى إلى علاقة تصارعية بين السلطة والمجتمع، تارة تقوم على القمع، وتارة على الابتلاع الكامل.
في الثامن من كانون الأول لعام 2024، انهار نظام الأسد، لتبدأ مرحلة جديدة تُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والدولة، إذ لم يعد المجتمع خاضعا لسلطة متغولة، بل صار جزءا فاعلا في تشكيل مفهوم الدولة التي يعد الشعب أحد مكوناتها الأساسية. ومع هذه المرحلة، برزت عبارات السلم الأهلي وأهمية بنائه في خطاب القيادة الجديدة، إدراكا منها لثقل الإرث الذي تركه النظام السابق.
رغم ذلك، كان متوقعا أن تشهد البلاد حالات عنف مسلح منفلت، واشتباكات بين فلول النظام السابق وعناصر الأمن العام في ظل النظام الجديد، إذ رفض كثيرون من عناصر النظام البائد تسليم أسلحتهم، إضافة إلى وجود مقاتلين أجانب مارسوا العنف ضد المدنيين. أسباب هذه التحديات تعود إلى الطريقة التي هرب بها الأسد، تاركًا الدولة في حالة فراغ أمني، ما صعّب ضبط الأمن بالسرعة المطلوبة، فبينما يفترض أن تحتكر الدولة وحدها العنف المشروع، أتاح سقوط النظام بهذه الطريقة انتشار السلاح خارج إطارها.
وفق أدبيات العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، لا يمكن تحقيق الاستقرار إذا استمرت أقلية سياسية أو دينية أو طائفية في احتكار السلطة والمنافع. في ظل نظام الأسد، كان هناك توزيع غير عادل للامتيازات، ما يعني أن الانتقال إلى مرحلة جديدة، قائمة على مبدأ المواطنة المتساوية، يطرح تساؤلات حول مصير تلك الأقلية المنتفعة. فالحديث عن بناء سلم أهلي يفترض مسبقا أنه لم يكن موجودًا، مما يجعل تحقيقه السريع في ظل النظام الجديد أمرًا معقدا.
المقصود بمصطلح “الأقلية” هنا ليس فقط الطوائف الدينية أو العرقية، بل يتجاوز ذلك ليشمل العصابات الزبائنية التي لا يجمعها سوى المصالح، إذ لم يكن ولاؤها للنظام قائمًا على انتماء ديني أو عرقي، بل على ما يدره عليها من مكاسب. نظام الأسد لعب دورا رئيسيا في تأجيج الانقسامات الطائفية، ثم رحل تاركا المجتمع يواجه تبعات سوء إدارته للتنوع الثقافي، إذ استغل مخاوف الأقليات الدينية من أي نظام جديد قد يخلفه، خاصة إذا كان ذو طابع إسلامي.
مع ذلك، لا يرتبط بناء السلم الأهلي بنوع محدد من أنظمة الحكم، سواء أكانت إسلامية أم علمانية، بل بالسؤال الأهم: هل ينجح النظام الجديد في تجنب إعادة إنتاج أخطاء النظام السابق، لا سيما فيما يتعلق بالإقصاء والطائفية؟ فالنزوع إلى الانتقام لن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف. وهنا، يصبح من الضروري فصل الخطاب السياسي عن أسلوب شيطنة الطوائف، والتركيز على التمييز بين النظام الاستبدادي وأفراد المجتمع الذين لا يتحملون مسؤولية سياساته. فالوحدة الوطنية والرقي بالخطاب السياسي كفيلان بحماية الجميع، دون الحاجة إلى تصنيفات تعزز التفرقة مثل “الأقليات”، بل يجب ترسيخ مفهوم المواطنة.
السلم الأهلي يعني التوافق والانسجام بين مكونات المجتمع، وهو الوجه النبيل للثورة التي تحرر الإنسان من الطغيان السياسي. لكن الوجه القبيح لأي ثورة يتمثل في تحويلها إلى صراع عصبوي، يؤدي إلى اقتتال أهلي وجرائم إنسانية على أسس طائفية أو حزبية أو مناطقية. لذلك، فإن أولوية بناء السلم الأهلي في سوريا تتمثل في تحقيق الأمن، بحيث يمارس المواطن حياته بحرية مسؤولة، ويتمتع بحقوقه دون خوف على حياته أو ممتلكاته. وهذا يتطلب تزامنا بين فرض الأمن وتكريس خطاب وطني جامع، يمنح المواطنة الأولوية على الولاءات الضيقة، ويحذر من إعادة إنتاج أنظمة الولاء القائمة على تمجيد الحاكم بدلاً من تمجيد العدالة.
حين يكون القانون هو الحكم، وتكون الدولة هي الحامية لحقوق الأفراد، لا يحتاج المواطن إلى الاحتماء بطائفته أو عشيرته، بل يجد الأمان في كنف الدولة. تحقيق السلم الأهلي يتطلب الارتقاء بمفهوم الإنسان والمواطن، وهي مهمة صعبة في المراحل الانتقالية، حيث تقف الانتماءات العصبوية عائقا أمام هذا المسعى. لذا، لا بد أن تعلن قيادات الثورة، بشكل صريح ومتكرر، التزامها بأخلاقيات الثورة النبيلة التي تجرم الطائفية والاقتتال الأهلي، وتؤكد أن بناء السلم الأهلي ليس مجرد ترتيبات سياسية، بل عملية إعادة تشكيل للبنى الاجتماعية وفق مبادئ العدالة، بعيدًا عن منطق الغلبة والانتصار العسكري.
لم يكن السلم الأهلي حاضرا في ظل نظام الأسد، وبالتالي فإن تحقيقه بسرعة بعد سقوطه أمر غير واقعي. لكن السلطة الجديدة مطالبة بالسير بثبات نحو ضبط الأمن، وتكريس خطاب عادل وإنساني يعزز سيادة القانون، ويحفظ أمن الإنسان، ويؤسس لتعايش سلمي، بدلا من الاقتتال، عبر إدارة حكيمة للتنوع المجتمعي في سوريا.
د. ندى ملكاني _ دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة دمشق.