إن بناء سوريا الجديدة، سوريا التي تقوم على أسس العدالة والتعددية والمصالحة الوطنية، يتطلب رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار التنوع العرقي والديني والسياسي للمجتمع السوري، فلا يمكن إعادة بناء البلاد دون الاعتراف بحقوق جميع مكوناتها وضمان مشاركتها الفاعلة في صياغة مستقبلها.
ومن هنا، يأتي دور مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده، والذي يجب أن يكون شاملاً لكل الأطراف دون استثناء، وخاصة المجتمع المدني والمثقفين والنخب الشابة، الذين يمثلون القوى الحية القادرة على دفع عجلة التغيير نحو سوريا أكثر عدلاً وازدهاراً.
ولا بد لتحقيق الاستقرار في سوريا المستقبل، لا بد من عدالة انتقالية قائمة على مبادئ الإنصاف وجبر الضرر، دون أن تتحول إلى أداة انتقام. فالهدف يجب أن يكون إرساء ثقافة المحاسبة العادلة التي تركز على تعويض الضحايا وبناء جسور الثقة بين مكونات المجتمع، بما يساهم في تضميد الجراح وتعزيز الوحدة الوطنية، وهذه العدالة يجب أن تتجسد في دستور وطني شامل، يكفل الحقوق المتساوية للجميع، ويعتمد على مبدأ فصل السلطات والمواطنة المتساوية، بحيث يمنع احتكار السلطة، ويؤسس لنظام ديمقراطي يتيح تداول السلطة سلمياً من خلال انتخابات نزيهة وشفافة، تعكس الإرادة الحقيقية للشعب.
ولايمكن الحديث عن بناء سوريا جديدة دون التركيز على التنمية المستدامة، التي يجب أن تشمل كل المناطق دون تمييز على أساس الانتماءات السياسية أو المناطقية.
ويستلزم ذلك إرساء نظام اقتصادي عادل، يقوم على تكافؤ الفرص وضمان توزيعٍ عادل للثروات، بحيث لا تبقى فئة تستأثر بالمقدرات على حساب الآخرين.
وفي هذا السياق، لا بد من تبني سياسات اقتصادية تدعم ريادة الأعمال والاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتحقيق تنمية متوازنة بين الريف والمدينة، مما يعزز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، كما أن إعادة إعمار سوريا يجب أن تعتمد على نهج مستدام يأخذ في الحسبان تحسين البنية التحتية، وتطوير قطاعي التعليم والصحة، وخلق بيئة اقتصادية مستقرة تتيح فرص العمل للجميع.
ركيزة اخرى من ركائز بناء الدولة المتقدمة وبناء المجتمع الديمقراطي وهو الإعلام الحر وغير المنحاز، حيث يجب أن يكون أداةً لنشر خطاب المصالحة والتسامح والانتماء الوطني، بدلاً من تأجيج التعصب والولاءات الضيقة. كما ينبغي أن يسهم في تعزيز ثقافة الحوار والانفتاح، بحيث يصبح المواطن السوري شريكاً فاعلاً في تشكيل مستقبل بلاده، بعيداً عن الإقصاء والتهميش.
ولابد لضمان استقرار سوريا المستقبل، يجب إعلاء مبدأ سيادة القانون، بحيث يكون الجميع متساوين أمامه، دون تمييز على أساس العرق أو الطائفة أو المنطقة. ويقتضي ذلك الابتعاد عن الممارسات التمييزية التي كانت سبباً في كثير من الأزمات التي شهدتها البلاد، والعمل على بناء مؤسسات قضائية مستقلة تضمن تحقيق العدالة لجميع المواطنين.
ولن تكون سوريا الجديدة قوية ومستقرة دون سياسة خارجية متوازنة، تكفل خدمة مصالحها الوطنية، وتجنبها أن تكون ساحةً لصراعات القوى الإقليمية والدولية، وهذا يتطلب تعزيز استقلالية القرار الوطني، بما يحفظ سيادة سوريا ووحدة أراضيها، ويؤسس لعلاقات تقوم على التعاون المتكافئ مع جميع الدول، بعيداً عن أي تبعية أو انحياز
فسوريا التي يحلم بها السوريون هي دولة مواطنة لا طوائف، دولة قانون لا استبداد، دولة تنمية لا فساد، دولة تعددية لا إقصاء. لكن تحقيق هذا الحلم يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وضغطاً مجتمعياً مستمراً، ودعماً دولياً يساهم في تهيئة الظروف المناسبة للانتقال نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.
ولكن الأهم من ذلك كله، هو أن يؤمن السوريون أنفسهم بأن المستقبل يجب أن يكون لكل السوريين، مهما اختلفت انتماءاتهم ورؤاهم، فالتعددية لا تعني التفرقة، بل هي مصدر قوة يمكن البناء عليه لتحقيق نهضة وطنية حقيقية تستند إلى العدالة والمساواة والتسامح.