في واحدة من أكثر المراحل تعقيداً في تاريخ سوريا الحديث، تعيش البلاد حالة تشرذم غير مسبوقة، ليس فقط على مستوى الخارطة الجغرافية المنقسمة، بل على مستوى الوعي الجمعي والانتماء الوطني ذاته. ولعل أخطر ما يواجهه السوريون اليوم ليس الحرب بحد ذاتها، بل ما أنتجته هذه الحرب من انقسام في الولاءات، وتكريس للهويات الجزئية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. لم يعد المواطن السوري يعرف نفسه كسوري أولاً، بل باتت انتماءاته المناطقية والطائفية والعرقية والحزبية تتصدر المشهد، في صورة مأساوية تعكس ما يمكن تسميته بانقراض الدولة الوطنية، مقابل صعود الدولة الفئوية والقبائل السياسية.
تعاني سوريا اليوم من أزمة هوية خانقة، فبعد سنوات من الصراع برزت في المجتمع أنماط جديدة من الانتماء تُبنى على أسس ما قبل الدولة، كالطائفة والعشيرة والقومية، أو الجماعة الأيديولوجية المنغلقة. هذه الانتماءات لم تعد تُكمّل الهوية السورية، بل حلت محلها، حتى أصبحت كلمة “الوطن” مجرّد شعار فارغ يتداوله الجميع دون مضمون موحد. هذا الانهيار في الهوية الوطنية كان نتيجة مباشرة لغياب العقد الاجتماعي، والانكشاف الأمني، وتفكك مؤسسات الدولة، إضافة إلى سياسات التهميش والإقصاء التي مورست لعقود، ما جعل الكثير من المكونات ترى نفسها بدائل عن الدولة أو ضحايا لها.
تُظهر الأحداث الأخيرة، وخاصة في الجنوب والسويداء، أن الاقتتال بين مكونات سورية ليس سوى مظهر واحد من مظاهر التشرذم، حيث بات السلاح أداة لحماية الولاء لا لحماية الوطن ولعل الأخطر من ذلك أن القوى الخارجية باتت تستثمر في هذه الولاءات، فتغذي الانقسامات وتستخدمها كورقة تفاوض وتخريب طويلة الأمد إن الفراغ السياسي الذي ولّدته الحرب، وغياب النخب الوطنية، أديا بالوضع إلى ما هو عليه الآن ومن أكثر الأسئلة إيلاماً في هذا السياق: أين المثقف السوري؟ وهل استطاع أن يكون ضميراً نقدياً؟ الحقيقة أن معظم النخب الفكرية إما دخلت في دوائر الاصطفاف، أو انسحبت إلى الصمت والعزلة، أو وقعت في فخ التمويل الخارجي ففقدت استقلاليتها.
غياب المشروع الثقافي الوطني، واستسلام النخب أمام واقع التفكك، عمّق الأزمة بدل أن يساهم في معالجتها فما أحوج سوريا اليوم إلى صوت وطني شجاع يعلو فوق الطوائف والأعراق، ويعيد صياغة السؤال الجوهري: ما معنى أن نكون سوريين؟ سوريا اليوم أمام مفترق حاسم، فإما أن نستمر في هذا المنزلق التفكيكي الذي يحوّلها إلى ساحة صراع ولاءات، أو تبدأ مسيرة شاقة نحو إعادة بناء الدولة الوطنية على أسس جديدة، دولة تحترم التعدد دون أن تنقسم، وتضمن الحقوق دون أن تسقط في المحاصصة.
لا يمكن الحديث عن حل سياسي أو إعادة إعمار دون إعادة بناء العقد الاجتماعي السوري، وتجديد الفكرة الوطنية، وطرح مشروع جامع يتجاوز منطق المنتصر والمهزوم، ويعلن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار إن التشرذم ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة لسياسات وتصورات قابلة للتغيير، والولاءات الضيقة لا تُلغى بالشعارات، بل بتوفير بديل وطني يثبت أنه الأقدر على حماية المواطنين وتحقيق العدالة.
المرحلة القادمة يجب أن تكون مرحلة وعي وطني عميق، يبدأ من التعليم والإعلام والثقافة، وينتهي ببناء مؤسسات تحترم الإنسان وتمنحه الشعور بالكرامة والانتماء فإما أن ننجح كسوريين في إنتاج مشروع وطني جامع وبناء وطن تعددي، أو نبقى نعيش في دولة بلا هوية، وشعب بلا أمل، وماضٍ يطارده المستقبل.
الدكتور محمد درويش
الناطق الرسمي لحزب الوطن السوري