في ظل التحديات المجتمعية التي تواجهها المجتمعات اليوم تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في مفهوم التغيير وآليات تحقيقه، فغالباً ما يتم التركيز على الحلول الكبرى والتحولات الجذرية بينما يغفل الدور المحوري للسلوكيات الفردية الصغيرة في صنع الفرق.
إن التغيير الحقيقي لا يبدأ بقرارات فوقية أو إصلاحات هيكلية فحسب بل ينبثق من الممارسات اليومية للأفراد تلك التي تتراكم مع الوقت لتشكل وعياً مجتمعياً راسخاً ينعكس إيجاباً على البنية العامة للمجتمع، فقد أثبتت التجارب أن المجتمعات الأكثر تقدماً ليست بالضرورة تلك التي تمتلك موارد أكبر أو قدرات خارقة بل هي تلك التي تتمتع بأفراد يدركون تأثير أفعالهم الصغيرة في الصورة الكبرى.
عندما يلتزم المواطن بإلقاء النفايات في أماكنها المخصصة أو يحترم قوانين المرور دون وجود رقابة أو يبادر إلى مساعدة الآخرين فإن هذه السلوكيات على بساطتها تتحول إلى ثقافة مجتمعية تعزز قيم النظام والمسؤولية والانضباط، من هنا يتأكد أن بناء المجتمعات لا يتم عبر القرارات السياسية وحدها مهما كانت جذرية أو إصلاحية بل يتم عبر تراكم الخيارات الفردية الواعية التي تشكل في النهاية واقعاً ملموساً وحياة أكثر تنظيماً وعدلاً، فالمجتمع لا يحتاج إذناً من أحد ليبدأ التغيير ولا يجب أن ينتظر موافقة المجتمع الدولي ليعيد هيكلة الإنسان، إذ إن الإنسان يعيد هيكلة نفسه حين يقرر أن يكون واعياً، منضبطاً، مبادراً.
وفي زمن امتلأ بالشكاوى وانتظار الحلول من الخارج يبرز سؤال جوهري لا بد من طرحه بصدق…هل سنبقى ننتظر الدولة؟ أم سنبدأ نحن؟
الحقيقة التي يجب أن نواجهها بكل جرأة هي أن التغيير لا يأتي بقرار سياسي ولا بوعود من الخارج ولا حتى بثورة لحظية، التغيير الحقيقي يبدأ من سلوك صغير يتكرر ويتحول إلى عادة وإلى ثقافة عامة بل إلى هوية جمعية.
لذا فإن مسؤولية التغيير لا تقع على عاتق الحكومات والمؤسسات الرسمية فقط بل تشمل جميع فئات المجتمع بما في ذلك الأحزاب والمنظمات والأفراد، فالدولة ليست سوى انعكاس لسلوك مواطنيها والمجتمع المنضبط ينتج بالضرورة نظاماً قوياً متماسكاً، أما حين تعم الفوضى من الأسفل يستحيل أن تأتي العدالة من الأعلى.
إن دور المؤسسات السياسية والاجتماعية على هذا الأساس يجب أن يتجاوز الخطابات والشعارات إلى برامج عملية تعزز الوعي المدني وتشجع المبادرات الفردية،
فقيمة أي كيان سياسي أو اجتماعي لا تقاس بعدد أعضائه أو حجم تأثيره الإعلامي بل بعدد السلوكيات الإيجابية التي ينجح في ترسيخها على أرض الواقع في البيوت والمدارس والشوارع والمرافق العامة.
لقد أثبت التاريخ أن الحضارات العظيمة لم تبن بين ليلة وضحاها بل نتجت عن تراكم القيم والممارسات الإيجابية التي تبناها الأفراد يومياً، فالمجتمع الذي يتعلم أفراده احترام النظام والمحافظة على الممتلكات العامة والتطوع لمساعدة الآخرين هو مجتمع قادر على تحقيق التقدم المستدام مهما كانت التحديات من حوله.
وعليه فإن تعزيز هذه القيم يجب أن يكون جزءاً أساسياً من أي استراتيجية حقيقية تهدف إلى تحقيق التنمية المجتمعية الشاملة، فالرقي لا يُمنح بل يُكتسب بسلوك واع ومثابرة طويلة الأمد.
ومن هنا يجب التأكيد على أن التغيير يبدأ بالفرد ولا يحتاج إلى انتظار ظروف مثالية أو قرارات كبرى، فكل فعل صحيح وكل التزام بسيط وكل مبادرة فردية تشكل لبنة في صرح التغيير المنشود.
إن تحمل المسؤولية الفردية والالتزام بالسلوكيات الإيجابية والمبادرة إلى العمل دون انتظار الآخرين هي الأسس الحقيقية لأي تحول مجتمعي ناجح، وحين يدرك كل فرد دوره في هذه المعادلة يصبح تحقيق التغيير ليس ممكناً فحسب بل حتمياً.
سارة حسن- عضوة قيادة مكتب الشباب- فرع طرطوس