إن أعمق ما يمكن الوقوف عنده في النظرية السياسية الحديثة هو هذا الانزياح الجذري نحو المادي حيث بات الاقتصاد بما يتضمنه من مطالب الأرض والدم والجنس والبيئة هو العنوان الأبرز للعصر
لم يعد الإنسان بوصفه كائناً روحياً، هو محور الوجود، بل بات خاضعاً بشكل مباشر لنزعاته الغريزية وذلك نتيجة لهيمنة الآلة وسطوة التكنولوجيا على نمط الحياة المعاصرة.
لقد أنتجت الطفرة التكنولوجية أنماطاً جديدة من العلاقات الاجتماعية افتراضية في ظاهرها لكنها ذات تأثير عميق في الواقع المادي تماماً كما تؤثر الأحلام وأحلام اليقظة على الوعي فإن الفضاء الرقمي خلق واقعاً موازياً لا يقل خطورة عن الواقع السياسي بل أصبح من أدوات تشكيله.
هذا الواقع المزدوج أفرز نمطاً من الوعي الجماهيري القائم على الأرقام، مما أدى إلى تغليب سلطان الحساب على سلطان القيم والمبادئ.
هكذا تحولت الديمقراطية وهي في أصلها وعد بتحقيق إرادة الناس إلى مجرد تقنية لاستثمار الأعداد إنها في جوهرها المعاصر لم تعد إلا وسيلة لتزوير الإرادة العامة باسم “إرادة الأكثرية”، فالعدد وحده بات معيار الشرعية، مما أفسح المجال لطغيان الجماهير، لا بوصفهم أفرادا أحرارا، بل كتلا لا تتحرك إلا بإيحاء زعيم أو “مروض”.
وهنا يبرز الفرق الجوهري بين القائد والمروض. فالقائد يلهم، أما المروض فيروض عبر السيطرة النفسية، مقنعاً تابعيه بأنهم أحرار في قراراتهم، بينما هم في الحقيقة أسرى لإيحاءاته، وهؤلاء الزعماء – المروضون – ليسوا بالضرورة من لحم ودم، فقد تكونهم التكنولوجيا نفسها، عبر الخوارزميات ومنصات التأثير الكبرى.
إن هذا النموذج من الزعامة يقود إلى حتمية تاريخية تقوم على اضطهاد كل من يخرج عن الحظيرة لا سيما أولئك الذين يعتنقون قناعات دينية أو روحية تعارض منطق الجماهير فالدين، بوصفه صوتا داخليا ونداء للحرية، يصبح تهديدا صريحا لحظيرة الغرائز، التي تُسَجَّن فيها الجماهير تحت مسمى “الحريات”، بينما هي في الحقيقة لا تعدو كونها حرية الاختيار بين سلاسل متعددة.
تُبنى هذه الحظيرة على أوتاد من الوطنية، والجنس، والانتماء العرقي، وتُطوَّق بأسلاك شائكة من خطاب إعلامي زائف وحين يأتي من يدعو إلى التحرر من هذه الحظيرة إلى فضاء الإنسانية، إلى أخلاق آدمية تتجاوز الحسابات العددية، يُعلن المروضون الحرب عليه، إذ يُعد أخطر خصم لطغيانهم.
إن جوهر الحرية ليس في أن نختار سجاننا، بل في أن نتحرر من فكرة السجن ذاتها، والحرية الحقيقية لا تُقاس بالأعداد ولا تُمنح من زعيم بل تُنتزع من داخل الإنسان حين يرفض أن يكون جزءاً من القطيع وما لم تتحرر السياسة من سلطان العدد إلى سلطان الروح، سيظل الإنسان الحديث تائهاً بين أحلامه الرقمية وكوابيسه الواقعية.
راما حسين- عضوة المجلس المركزي- رئيسة فرع طرطوس