في خضمّ الأزمات التي تمرّ بها الأوطان، وفي لحظات التحوّلات المصيرية، يُختبر صدق الانتماء، وتُقاس عظمة القادة والأحزاب والتيارات بقدرتهم على وضع المصلحة الوطنية فوق كلّ اعتبار.
هذه القدرة ليست ضعفا ولا تنازلا، بل هي قمّة الحكمة ونضج الرؤية وبُعد النظر.
تغليب المصلحة الوطنية هو التعبير الأسمى عن القوة؛ لأنه يقوم على رؤية استراتيجية تتجاوز اللحظة الآنية لصالح المستقبل، وتُقدّم البناء على الهدم، والوحدة على التشرذم، والمصير المشترك على المكاسب الشخصية أو الفئوية.
والمصلحة الوطنية ليست شعارا يُرفع عند الحاجة، بل هي بوصلة ينبغي أن تهدي كلّ السياسات والمواقف. وعندما نتحدّث عن المصلحة الوطنية، فإننا نعني الحفاظ على وحدة البلاد، وتماسك نسيجها الاجتماعي، وتعزيز كرامة المواطن وحقوقه، وتوفير شروط الحياة الكريمة له. وكلّ ما عدا ذلك من مصالح حزبية أو شخصية أو أيديولوجية، يجب أن يتراجع أمام هذا الهدف الأسمى.
فالقوة الحقيقية لا تكمن في التشبث بالمواقف، ولا في كسب النقاط في المعارك الإعلامية أو السياسية، بل في القدرة على التنازل من أجل ما هو أسمى. فمن السهل أن يدخل طرفان في صراع، لكن من الشجاعة أن يمتلك أحدهما القدرة على التنازل من أجل الوطن. تلك ليست هزيمة، بل قمّة الانتصار.
ومن لا يستطيع تجاوز أنانيته ومصالحه الضيقة في سبيل وطنه، لا يستحق أن يكون في موقع القيادة أو المسؤولية.
وتاريخ الشعوب مليء بنماذج لقادة وأحزاب اختاروا الوطن على أنفسهم، فخلّدهم التاريخ، كما فعل الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، الذي خرج بعد سبعة وعشرين عاما من السجن، ليختار المصالحة لا الانتقام، ويقود بلاده نحو الاستقرار والسلام. لم يكن ذلك ضعفا، بل قوة أخلاقية وسياسية هائلة، صنعت نموذجا يُدرّس في مناهج الأمم والشعوب.
فحين يُوضَع الوطن في الميزان، لا يبقى مكان للمناكفات أو تصفية الحسابات. فالمسؤولية الأخلاقية تفرض على الجميع أن يضعوا استقرار الوطن وكرامة مواطنيه فوق كل شيء.
القرار الشجاع ليس بالضرورة هو القرار الذي يمنح صاحبه وهج اللحظة، بل هو ذاك الذي يثبت، مع الزمن، أنه جنّب الوطن كارثة، وحقن دماء السوريين، ومهّد طريقا آمنا لمستقبل البلاد.
ومن وجهة نظر حزب الوطن السوري، فإن الوطن قد عانى ما يكفي من الانقسامات والتجاذبات. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج السوريون إلى رؤية وطنية جامعة، تُبنى على المشترك لا على الخلاف، وتوحّد لا تفرّق.
إن عبور النفق يبدأ بوضع مصلحة سوريا فوق كلّ اعتبار، والمعادلة بسيطة: إما أن نبني سوريا معا، أو نسقط متفرقين.
كلّ خطوة تُتخذ في اتجاه المصلحة الوطنية، وكلّ تجاوز للذات من أجل المجموع، هو لَبِنة في بناء وطن قوي، عادل، آمن، يسع جميع أبنائه، ويليق بمستقبلهم.
د. محمد درويش
عضو المكتب السياسي الناطق الرسمي باسم حزب الوطن السوري