عندما غادرت سوريا، كان ذلك على مبدأ “مكرهاً أخاك لا بطل” بعد سنواتٍ طويلة من الاعتقال وحرمانٍ من السفر لأكثر من عشر سنوات وجدت نفسي مقيماً في بلدٍ طيب، بين شعبٍ محترم يحب السوري، ويتعاطف مع جراحه، ويقدّر حجم آلامه. تلك كانت مصر الحبيبة، أم الدنيا، التي حفظت السوريين في قلوب أهلها، حماها الله ورعاها من كل سوء.
لكن رغم هذا الاستقرار النسبي، بقيت الروح معلّقة هناك، على تراب سوريا غياب جسدي دام سنوات، لكنه لم يطفئ جذوة الانتماء ولا نار الحنين وحين أتيحت الفرصة للعودة، كانت دهشتي كبيرة وجدت أن “البعوض والذباب الإلكتروني” قد لعب دوراً خبيثاً في تشويه الحقائق، ونشر صورة مشوّهة عن واقع الداخل السوري.
قمت بزياراتٍ لمدن وقرى ومحافظات مختلفة، فرأيت الواقع بعيني، لا كما يُنقل عبر الشاشات نعم، هناك بنى تحتية تحتاج إلى إعادة تأهيل، وهناك خوف من المجهول يسيطر على العقول، وهناك خدمات أساسية ما زالت بأمسّ الحاجة إلى تكاتف شعبي وحكومي لكنني وجدت أيضاً مؤشرات إيجابية كنا نفتقدها لسنوات طويلة، وخاصة في المعابر والحدود.
عندما دخلت من معبر درعا، أحسست بزوال الخوف الذي كان يتملك المسافرين ويخنق أنفاسهم عند كل عودة لأول مرة منذ زمنٍ بعيد، شعرت أنني أنتمي إلى وطنٍ عريق اسمه سوريا في تلك اللحظة، حمدت الله كثيراً على زوال الكابوس المرعب الذي جثم على صدور السوريين لعقود طويلة كان كابوسا أسود كقلوب “الأسديين” الذين أذاقوا البلاد الويلات (وأقصد بالأسديين كل من ساهم في نشر الرعب والفساد، مهما كانت طائفته أو مذهبه، فهم كانوا خليطاً من كل المكوّنات، لا طائفة بعينها).
اليوم، تبدو سوريا كطفلٍ وليد موضوع في الحاضنة، بحاجة إلى رعاية مشددة هي تحتاج إلى دعم مالي، إعلامي، ومجتمعي، وتحتاج إلى كلمة صادقة، وحنانٍ متبادل بين أبنائها أقل ما يمكن تقديمه هو أن نُحسن القول والفعل تجاه بعضنا البعض فالحب والشوق للوطن، لا يكفي أن يبقى شعاراتٍ عاطفية، بل يجب أن يتحوّل إلى خطواتٍ عملية، إلى بناء، إلى مبادرات، إلى فعلٍ حقيقي على الأرض.
إن سوريا اليوم بحاجة لكل أبنائها، بحاجة إلى أن نصغي لبعضنا، وأن نعيد الثقة بين المكوّنات، وأن نؤمن أن الوطن لا يُبنى إلا بالمحبة والعدل، ولا يُنهض إلا بتكاتف السواعد وتآلف القلوب.
نعم، سوريا الجريحة ليست بخير كامل، لكنها حيّة، وتتنفس رغم كل الألم. وما دامت حيّة، فإن الأمل باقٍ، والمسؤولية مضاعفة على كل من يعتبر نفسه ابن هذه الأرض الطيبة دعونا نحول الحنين إلى مشروع، والشوق إلى فعل، ونثبت للعالم أن سوريا الأم قادرة على النهوض من جديد.
شكري شيخاني- رئيس التيار الإصلاحي السوري