تمر سوريا اليوم بلحظة مفصلية لا تُختزل في مجرد الانتقال من نظام استبدادي إلى آخر، بل تتجلى في مفترق طريق بين مسارين متناقضين: أحدهما يُعيد إنتاج المأساة بصيغ أكثر تزييناً، وآخر يفتح الأفق أمام مشروع ديمقراطي حقيقي وجذري.
ما نراه ليس انتصاراً ديمقراطياً متراكماً، بل فراغاً سياسياً نشأ بعد انهيار البنية القديمة، لم تستطع القوى الديمقراطية ملأه بفعالية وتنظيم وقد تصدرت المشهد سلطة انتقالية، نالت شرعية الأمر الواقع، مستندة إلى نشوة النصر وماضٍ قريب، لا إلى عقد وطني جامع أو تفويض شعبي واسع هذا ما يجعل بنيتها هشة واستمرارها مهدداً، ويجعل من الحاجة إلى تحالف ديمقراطي موحد ضرورة وطنية ملحة.
ينبغي النظر إلى تنوع الرؤى داخل الطيف الديمقراطي لا كمصدر خلاف بل كرافعة للتجدد السياسي هذا التعدد، إن أُدير بعقلانية، يمكن أن يتحول إلى قوة دافعة نحو التغيير. لكنه قد يتحول إلى عبء إن لم يُضبط ضمن عقد سياسي ينظم الاختلاف، ويضمن حداً أدنى من التوافق ويحمي شرعية المشروع الوطني من الانفجار الداخلي ومن تغول مشاريع استبدادية تتدثر بشعارات “الاستقرار” و”الواقعية”.
إن الدعوة إلى تحالف ديمقراطي لا تنبع من طموح نخبوي بل من حاجة وطنية صادقة لدرء خطر الانهيار واستعادة المسار المدني، بما يضع الإنسان في قلب السياسة لا على هامشها تحالفٌ يتأسس على الاعتراف بالأخطاء، ورفض التخوين ونبذ احتكار الأخلاق والشرعية.
ورغم نوايا صادقة من قوى ديمقراطية عديدة، إلا أن غياب التنظيم وافتقار الأدوات العملية ما زال يُقيد قدرتها على الفعل المؤثر وإذا استمر التشتت، فإن هذا الفراغ لن يبقى طويلاً، وقد يُملأ بخيارات انتقالية لا تعبّر عن تطلعات السوريين ولا تحاكي أحلامهم.
اليوم نحن بحاجة إلى “مشروع نجاة وطنية” لا إلى برنامج حكم سلطوي مشروع يُدرك ثقل اللحظة، ويستند إلى عقلانية نقدية ومسؤولية جماعية، ويعيد تعريف الدولة بوصفها أداة في خدمة الإنسان، لا كياناً فوقه أو ضده.
مشروع يؤسس لمقاربة ناضجة لعلاقة الدين بالمجال العام، تُبقي على دوره القيمي والروحي دون أن تُسخّره أدوات للإقصاء أو السيطرة مشروع لا يستند إلى أوهام أيديولوجية، بل إلى العقل كأداة، والضمير كمرشد، والإنسان كغاية.
ورغم الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فإن هذا التدهور قد يكون لحظة نادرة لإعادة بناء مفهوم “الوحدة” الوطنية — لا بالفرض، بل بالشراكة الطوعية المبنية على الكرامة والمساواة.
هذه الوحدة لا تُبنى بالشعارات، بل بعقد وطني جديد يعيد تعريف الانتماء، ويقوم على شراكة حقيقية بين كل السوريين والمفتاح لذلك هو مؤتمر وطني شامل لا يُقصي أحداً، ويجمع القوى السياسية والاجتماعية وممثلي المناطق، بما في ذلك الجهات المسيطرة على الأرض، باعتبارهم جزءاً من الواقع.
الخطر الأكبر لم يعد في الانقسام فحسب، بل في الوهم بأن الاستقرار ممكن من دون عقد اجتماعي جديد يُعيد الإنسان إلى مركز الفعل السياسي.
اللحظة السورية لا تحتمل التأجيل وعلى القوى الديمقراطية أن تتحرّك برؤية جامعة، تتجاوز صراع السلطة، لتكون شريكاً أساسياً في رسم المستقبل.
فلم تعد المسألة “من يحكم؟”، بل “كيف نعيد بناء دولة تحتضن أبناءها، وتؤسس لعيش مشترك يقوم على العدالة والكرامة والتعدد؟”.
إما أن تكون القوى الديمقراطية شريكة في هذا الأفق، أو تترك الواقع يُعاد تشكيله بغيابها، فنجد أنفسنا في نسخة مكررة من المأساة ولكن أكثر هدوءاً وأكثر قسوة.