الشعوب لا تختار جيرانها كما لا تختار جغرافيتها وبين الجوار والجغرافيا ترسم في أحيان كثيرة ملامح الصراعات السياسية والمطامع التاريخية والشمال السوري هو أحد أبرز الأمثلة التي تجسدت فيها هذه الحقيقة
ما زالت بلادنا العربية تعاني من تبعات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى تلك المرحلة التي اعيد فيها تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة وفق مصالح القوى الكبرى لا وفق إرادة شعوبها ومن يتأمل ما جرى في سوريا خصوصا في مناطقها الشمالية يدرك حجم الخسائر التي لحقت بالجغرافيا الوطنية بفعل الاتفاقات الدولية التي لم تكن متوازنة ولا عادلة
اتفاقية أنقرة التي وقعت عام ألف وتسعمئة وواحد وعشرين بين فرنسا المنتدبة على سوريا والجهة المقابلة كانت واحدة من هذه الاتفاقيات حيث أفضت إلى ضم مناطق واسعة من شمال سوريا تعرف تاريخيا بالسناجق الشمالية وهي تشمل قيليقية والجزيرة الفراتية العليا ومساحتها تتجاوز ثمانية عشر ألف كيلومتر مربع.
هذه الأراضي تمتد من شمال خط سكة الحديد الذي يربط اسطنبول ببغداد والذي اعتمد لاحقا لرسم حدود معدلة بين سوريا والدولة المجاورة وفق معاهدة لوزان التي وقعت عام ألف وتسعمئة وثلاثة وعشرين لتضيف شرعية دولية إلى ما تم الاتفاق عليه مسبقا.
وبموجب هذه التفاهمات خرجت مناطق عديدة من الخريطة السورية منها مرسين وطرسوس وأضنة ومرعش وعنتاب وكلس وأورفة وحران ونصيبين وغيرها بل إن بعض المدن قُسمت إلى شطرين بسبب مرور الحدود الجديدة في وسطها كما حدث في جرابلس ونصيبين ورأس العين.
ما يؤكد الانتماء الطبيعي لهذه المناطق إلى سوريا ليس فقط موقعها الجغرافي الواقع جنوب جبال طوروس الحد الطبيعي الفاصل بل أيضا خصائصها الاقتصادية والثقافية فهي جزء من الهلال الخصيب وتتميز بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها من نهري الفرات ودجلة وروافدهما مما يجعلها امتدادا طبيعيا لا ينفصل عن باقي الأراضي السورية.
ولا يمكن الحديث عن فقدان الأراضي السورية دون التوقف عند لواء إسكندرون الذي خرج بدوره من الخريطة السورية في ظروف دولية مضطربة وسط ضعف داخلي وانشغال عربي واسع بقضية الهجرة اليهودية إلى فلسطين حيث طغت الأولوية القومية على التفاصيل الإقليمية الأخرى وهو ما سمح بمرور هذه الخسائر بصوت معارض خافت لا يكاد يُسمع.
اليوم وبعد مرور قرن على تلك الاتفاقيات تعود الصورة ذاتها ولكن بأدوات مختلفة فما يجري في الشمال السوري ليس بعيدا عن منطق التوسع والسيطرة وإعادة تشكيل النفوذ الحدود التي رسمت بالأمس بالقوة والسياسة يتم اليوم السعي لإعادة رسمها مرة أخرى بنفس المعادلة ولكن بأدوات عسكرية مباشرة أو بوسائل اقتصادية وأمنية ناعمة.
الصراع في سوريا لم يعد مجرد مواجهة داخلية أو خلاف سياسي بل أصبح صراعا دوليا تتعدد فيه الأطراف والمصالح والمواقع وتتقاطع على أرضه مشاريع إقليمية ودولية تمتد من الطاقة إلى الممرات الاستراتيجية ومن المياه إلى المعابر ومن النفوذ العسكري إلى إعادة التوزيع السكاني والديمغرافي.
غير أن ما ينبغي إدراكه هو أن الماضي ليس مجرد سرد تاريخي بل هو مفتاح لفهم الحاضر من لا يفهم كيف خسر أرضه لن يستطيع أن يحمي ما تبقى منها ومن لا يعي أن ما جرى كان نتيجة غياب الوعي والسيادة والقرار الوطني لن يستطيع أن يمنع تكراره.
لقد حاصرت قوى عديدة سوريا على مدار سنوات كما تحاصر الوحوش فريستها بعضهم يتربص وبعضهم يهاجم وبعضهم يفاوض غير أن من يغفل عن فريسته الأصلية ويلهث خلف مكاسب جزئية يفقد في النهاية كل شيء كما في الحكاية التي يضرب بها المثل عن من يطارد الأرنب فيفقد الغزال.
الدفاع عن السيادة لا يكون فقط بالسلاح بل بالوعي والإرادة والتمسك بالثوابت الوطنية والموقف الموحد أمام مشاريع التقسيم مهما تغيرت أسماؤها أو تغلفت بشعارات إنسانية أو أمنية أو تنموية فالخطر لا يُواجه بالتمني وإنما بالموقف القوي والمدروس.
ما حدث قبل قرن من الزمن يجب أن يبقى حاضرا في ذاكرة السوريين فالوطن لا يصان إلا بالثمن الكبير ولا يحمى إلا بوحدة الصف ووضوح الرؤية والسياسة الحكيمة وحدها القادرة على تجنيب البلاد المزيد من الدماء والخسائر وتحقيق التوازن المطلوب بين الصمود والممكن.
شيماء الخلف- عضوة المجلس المركزي في حزب الوطن السوري.