تشهد منطقتنا حالة من التوتر المستمر، والتي تعود في جوهرها إلى انتشار الفكر المتشدد ورفض التعددية، مما خلق صراعات قائمة في كثير من الأحيان على أسس مذهبية وعقائدية، في مقابل هذا المشهد نجد أنفسنا محاطين بتنوع ثقافي وديني وعرقي غني يشكل مصدرا للقوة لا للفرقة إذا ما تم التعامل معه بروح إيجابية ومنفتحة.
إن تقبل الآخر المختلف لا يعني فقط التعايش معه بل يُعد خطوة جوهرية نحو بناء مجتمع سليم، يعزز من التفاهم والتعاطف والانفتاح. فالتفاعل بين مكوّنات المجتمع المختلفة يساهم في تحسين وجهات النظر، وتوسيع الأفق الثقافي كما يغني التجربة الإنسانية الفردية والجماعيةوهذا ما يحول التنوع من مجرد واقع نعيشه إلى قوة محركة للتنمية والاستقرار.
سوريا، ومنذ عقود تعد نموذجا حقيقيا للتنوع والتعايش فالنسيج الاجتماعي فيها يضم العرب والكرد والسريان والأرمن واليهود وغيرهم ممن عاشوا معا رغم اختلاف الأديان واللغات والعادات تشاركوا الأفراح والأحزان وتقاطعت عاداتهم وتقاليدهم حتى كونت وحدة شعبية متماسكة تحت راية الهوية الوطنية الجامعة هذا التماسك رغم قسوة الظروف يعكس أن التنوع لا يضعف الشعوب بل يقويها.
ورغم أن الاختلاف سمة بشرية أزلية، إلا أن بعض الأطراف عبر التاريخ استغلته لزرع الفرقة والانقسام لذا من الضروري أن نعلي اليوم من قيم العيش المشترك ونواجه دعاة التفرقة بخطاب واع وممارسة فعلية على الأرض.
إن أولى المؤسسات التي يمكن من خلالها ترسيخ هذه القيم هي المدرسة فهي تمثل أول احتكاك فعلي للفرد مع التنوع المجتمعي من هنايجب أن تتبنى المناهج التعليمية مبدأ دمج المكونات الثقافية والدينية كافة وترسيخ مفهوم التعددية في أذهان الأجيال الناشئة منذ الصغر.
إلى جانب ذلك يلعب الإعلام دورا حيويا في إعادة تشكيل الوعي الجمعي وترسيخ القيم الإنسانية ليس فقط من خلال تغطية الأخبار بل عبر برامجه وحواراته التي ينبغي أن تروج لثقافة تقبل الآخر وتبرز النماذج المضيئة من التعايش الإيجابي بعيدا عن الخطاب الشعبوي أو التحريضي.
كما أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم تملك القدرة الأكبر على التأثير ويجب تسخيرها لتكون منابر لنشر ثقافة السلام وتعريف المجتمع بثقافات وأديان ومعتقدات الآخرين ليس بهدف المقارنة أو التقليل بل بهدف الفهم والاحتواء.
رغم أن التنوع قد يحمل في طياته بعض التحديات إلا أنه يشكال أيضا مصدرا للتميز والتفوق فالتفاعل مع الآخر المختلف يغني التجارب الفردية ويكسب الأفراد مهارات تواصل أكثر فاعلية ويساهم في تعزيز مفهوم “القبول الفعلي” الذي يتجاوز التسامح ليصل إلى الاعتراف الحقيقي بقيمة الآخر.
ومن هنالا بد أن يكون هذا التعدد والاختلاف مكرسا ومحميا في إطار قانوني واضح فالدستور يجب أن يتضمن قوانين صريحة تكفل الحريات والحقوق الفردية وتنظم العلاقة بين الأفراد على أسس العدالة والمساواة وتحميهم من التمييز والظلم لتكون الدولة مظلة آمنة لجميع مواطنيها.
إن بناء مجتمع عادل لا يمكن أن يتحقق دون احترام القانون الذي يعد الضامن الحقيقي للتوازن المجتمعي والردع ضد الفتن والنزاعات، وفي الوقت ذاته فإن التربية الواعية والإعلام المسؤول يشكلان الجناحين اللذين يحملان مشروع بناء الإنسان المتسامح والمنتمي لوطنه.
وهنا يجب التأكيد على أن التعددية ليست خيارا بل هي واقع نعيشه وقبولها هو شرط للاستقرار والتقدم وإذا أردنا مستقبلا لسوريا يكون فيه الوطن ملاذا آمنا للجميع فعلينا أن نبدأ من الآن بترسيخ هذا الوعي في كل مؤسسة وركن من أركان المجتمع.
فاطمة الفرج- عضوة مكتب المرأة في حزب الوطن السوري