بعد سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول، دخلت سوريا مرحلة انتقالية دقيقة تحمل في طياتها الكثير من التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، لكنها، في الوقت نفسه، تفتح نافذة أمل لإعادة بناء وطن مزقته الحرب والاستبداد. هذه المرحلة الانتقالية ليست مجرد انتقال شكلي للسلطة، بل هي بداية لمسار طويل من التحول العميق نحو نظام ديمقراطي يعكس إرادة الشعب السوري وتطلعاته بعد سنوات من القمع والدمار.
مع انهيار النظام، نشأ فراغ سياسي كبير استدعى تحركاً عاجلاً لتشكيل حكومة انتقالية تتولى إدارة شؤون البلاد بشكل مؤقت، إلى حين التهيئة لانتخابات ديمقراطية من المزمع إجراؤها في مارس 2025. وفي خطوة مهمة لتنظيم المرحلة القادمة، تم إصدار دستور انتقالي يشكل الإطار القانوني للعمل خلال السنوات الخمس التالية. وقد مثّل إلغاء دستور البعث أحد أبرز محاور هذا التغيير، في إشارة واضحة إلى رغبة السوريين في القطع مع الماضي وفتح صفحة جديدة في تاريخهم السياسي.
ورغم إعلان عدد من الفصائل المسلحة عن استعدادها للانخراط في العملية السياسية، لا تزال هناك شكوك وتساؤلات جدية حول مدى قدرة هذه القوى على التحوّل من العمل العسكري إلى سلوك سياسي مدني، ومدى تأثير ذلك على استقرار البلاد. كما أن تعقيدات المشهد السوري لا تقتصر على الداخل فقط، بل تتفاقم بسبب تداخل مصالح القوى الإقليمية والدولية. فروسيا، التي كانت الحليف الأقرب للنظام السابق، تسعى جاهدة للحفاظ على نفوذها الاستراتيجي، في حين تواصل تركيا تعزيز وجودها العسكري في الشمال السوري، فيما تركز الولايات المتحدة على محاربة الخلايا النائمة لتنظيم داعش، ودعم الاستقرار في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
مستقبل سوريا في هذه المرحلة يتوقف على مدى قدرة القوى السياسية والاجتماعية المختلفة على التفاهم والتوافق حول مشروع وطني جامع، يعيد بناء الدولة على أسس ديمقراطية حقيقية، ويضمن العدالة والمساواة بين جميع أبنائها. لا بد من حوار وطني شامل يضم كل المكونات دون استثناء أو تهميش، ويؤسس لنظام يحترم حقوق الإنسان، ويكفل الحريات العامة، ويضع حداً لثقافة الإقصاء والتفرد بالسلطة.
من أبرز المهام الملحّة في هذه المرحلة إعادة بناء الدولة من الأساس، بدءاً من صياغة دستور جديد يشارك في وضعه جميع السوريين دون تمييز، ويعكس تطلعاتهم لمستقبل تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون، ويكرس مبدأ فصل السلطات واستقلال القضاء. كذلك فإن إعادة بناء مؤسسات الدولة، ولا سيما الجيش والشرطة، بشكل يضمن فعاليتها وشفافيتها، يمثل خطوة أساسية للحفاظ على الأمن ومنع الفوضى.
لا يمكن تحقيق استقرار حقيقي دون معالجة ملف العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. يجب إنشاء هيئات قضائية مستقلة لمحاكمة من تورطوا في ارتكاب جرائم خلال فترة النزاع، مع التركيز على إعادة الثقة لا على الانتقام، وتضميد الجراح العميقة التي خلفتها سنوات الحرب. كما أن عودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم تشكل تحدياً إنسانياً كبيراً، يتطلب توفير بيئة آمنة، وشروط حياة كريمة تشمل السكن والتعليم والرعاية الصحية، بما يضمن عودتهم بكرامة إلى مجتمع يعاملهم كمواطنين كاملي الحقوق.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحرب والدمار الواسع تتطلب هي الأخرى رؤية واضحة وخططاً مدروسة. يجب إجراء مسح شامل لحجم الأضرار التي لحقت بالمدن والقرى والسكان، وتقديم تعويضات عادلة تقوم على أسس شفافة، تأخذ بعين الاعتبار ما يحدده أبناء كل منطقة، لضمان العدالة والإنصاف في إعادة الإعمار.
يبقى التعاون الإقليمي والدولي عنصراً محورياً في ضمان نجاح المرحلة الانتقالية، فالدول المؤثرة في الملف السوري مطالبة اليوم بدعم جدي وفعّال، لا يهدف إلى فرض أجندات أو تقسيم النفوذ، بل إلى مساندة الشعب السوري في بناء دولته الجديدة، المستقلة، الموحدة، والعادلة.
إن سوريا، وقد طوت صفحة النظام الذي حكمها لعقود بالحديد والنار، تقف اليوم أمام فرصة تاريخية حقيقية. الفرص موجودة لكنها مشروطة بإرادة سياسية قوية، وتوافق داخلي صادق، ودعم دولي نزيه. الطريق لن يكون سهلاً، لكن الشعب السوري الذي صمد في وجه الاستبداد والحرب، قادر على أن يبني وطنه من جديد، وطن يليق بتضحياته، ويمنح أبناءه مستقبلاً عنوانه الكرامة والحرية والعدالة.
أحمد الدرعان – عضو المكتب السياسي في حزب الوطن السوري