في خضم التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة التي تشهدها المجتمعات، تظل قضية المرأة محورية في أي مشروع تنموي حقيقي. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: ما الفرق بين “التمكين” و”التأهيل”؟ وكيف يمكن تحويلهما من شعارات نظرية إلى واقع ملموس، خاصة في ظل التحديات التي تواجهها المرأة السورية اليوم؟
عند النظر إلى مفهوم التأهيل، نجد أنه عملية تطوير المهارات والخبرات وتزويد المرأة بالمعرفة اللازمة عبر التدريب والتثقيف، مما يؤهلها لتحمل المسؤوليات في مختلف المجالات. أما التمكين، فهو الخطوة التالية التي تمنح المرأة الفرصة لتطبيق هذه المهارات عمليا عبر إزالة العوائق التي تحول دون مشاركتها الكاملة، سواء كانت هيكلية، ثقافية، أو اجتماعية. بمعنى آخر، التأهيل هو الوسيلة، والتمكين هو الغاية.
وبالعودة إلى جذور المفهوم، فقد ظهر التمكين في الستينيات مع الحركات النسوية الراديكالية التي ربطت تحرر المرأة بالصراع ضد الأنظمة الذكورية، مما أدى إلى تحويل القضية أحيانا إلى مواجهة بين الجنسين، وصلت حدَّ الثورة على الدين والتقاليد. لكن هذه النظرة أفرزت مشكلات جديدة، إذ جرى اختزال التمكين في “استقواء” المرأة على الرجل بدلاً من بناء شراكة مجتمعية قائمة على التكامل. ومع مرور الوقت، أعاد مؤتمر بكين العالمي للمرأة في التسعينيات التوازن إلى المفهوم، حيث دعا إلى إزالة العقبات القانونية والاقتصادية أمام مشاركة المرأة، وهو ما تُرجم لاحقًا إلى آليات مثل “نظام الكوتا” لضمان تمثيلها في البرلمانات والمؤسسات السياسية.
أما في الحالة السورية، فقد فرضت الحرب واقعًا صعبا جعل المرأة تواجه تحديات البطالة، الفقر، النزوح، والعنف. ومع تفاقم الأزمات، لم تعد مجرد ضحية، بل أصبحت عنصرا فاعلًا في مواجهة الظروف الصعبة، رغم أن جهودها تظل فردية وعشوائية بسبب غياب الإطار المؤسساتي الداعم. ورغم وجود مؤسسات تهدف إلى دعمها، إلا أن المشكلة لا تزال قائمة بسبب نقص الكفاءات النسائية المؤهلة التي تمتلك رؤية استراتيجية، وتستطيع تجاوز الدور المساعد إلى موقع القيادة وصناعة القرار. وهنا لا يكفي تقديم دورات تدريبية شكلية، بل يجب التركيز على بناء وعي عميق يعزز الثقة بالنفس ويواجه العادات البالية التي تكبل طموح النساء.
وانطلاقا من ذلك، فإن الانتقال من التأهيل إلى التمكين يتطلب وضع خطة عمل واضحة تتضمن خطوات عملية. فمن الضروري تطوير برامج تدريبية متخصصة تركز على القيادة السياسية والإدارية، وتعزز مهارات التحليل النقدي، بحيث تكون المرأة قادرة على اتخاذ قرارات مؤثرة. كذلك، لا ينبغي أن يقتصر دورها على الوجود الشكلي في المؤسسات، بل يجب تعزيز مشاركتها الفعلية في صياغة القوانين والدستور، بحيث لا تظل الكوتا مجرد رقم دون تأثير حقيقي.
إلى جانب ذلك، لا يمكن تحقيق التمكين دون معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيق المرأة، مثل إطلاق مشاريع اقتصادية توفر لها الاستقلال المالي، وسنّ تشريعات تحميها من العنف والتمييز، بالإضافة إلى حملات توعوية تُعيد تعريف دورها في المجتمع. وفي هذا السياق، لا بد من إدراك أن التمكين لا يعني إقصاء الرجل، بل يتطلب بناء تحالف مجتمعي يُدرك أن النهوض بالمرأة ليس خيارًا منفصلا عن تنمية المجتمع ككل. فالتغيير الحقيقي لا يتحقق عبر الصراع، بل عبر التكامل والتفاهم المشترك.
وفي النهاية، لا تحتاج المرأة السورية إلى شعارات دعائية أو تمكين صوري، بل إلى تأهيل يعيد لها الثقة بقدراتها، وتمكين يحولها من عنصر تابع إلى صانعة قرار. لقد كشفت الحرب هشاشة البنى المجتمعية، لكنها في الوقت ذاته فتحت الباب لإعادة تشكيلها. واليوم، نحن أمام اختبار حقيقي: إما أن نعيد إنتاج الأزمات عبر خطاب تمكيني وهمي، أو نصنع من التأهيل جسرا نحو مرحلة جديدة تكون فيها المرأة في طليعة النهضة المجتمعية.
فاطمة الفرج – عضوة مكتب المرأة في حزب الوطن السوري