تمثل الحرية شرطا أساسيا للوجود الإنساني، بل إنها ملازمة له. لا يمكن للفرد أن يبدع أو يعمل إذا حُرم من حقه في الحرية. وفي المجتمعات ذات التركيبة العرقية والمذهبية والطائفية المتنوعة، يصبح التعبير عن هذه الحرية مرتبطا ارتباطا وثيقا بوجود هوية وطنية جامعة، يستطيع الفرد في ظلها أن يعبّر دون أن يتخلى عن انتمائه الأساسي إلى مجموعته.
قد يبدو هذا الطرح غريبا أو كأنه دعوة لتغليب الانتماءات الأولية على حساب الانتماءات المدنية، لكنه ليس كذلك. صحيح أن الفرد في أوروبا تمكّن من تأسيس مجتمع مدني بعد تحرره من حكم الطغاة ومن سلطة الروابط الوشائجية والكنيسة، وصحيح أن الاستمرار في مقارنة الشعوب العربية بالدول الأخرى قد يبدو مملا أو كأنه يضفي فوقية على التجربة الأوروبية. ولكن لا يمكن إنكار أن الرؤية المثالية لدولة المواطنة، التي يكون فيها الانتماء الأول للدولة، قد ارتبطت بالتجربة الأوروبية. ومع ذلك، فإن هناك حاجة ملحة لجعل الهوية مشروعا وطنيا جامعا، وهو بالضبط ما ينبغي أن تعمل عليه المرحلة السياسية الجديدة في سوريا. إذ يجب أن يكون تعبير كل فرد عن ذاته ضمن إطار الدولة والقانون، دون أن يؤدي ذلك إلى تهديد كيان الدولة أو المساس بحقوق الآخرين.
تبقى هذه الفكرة قابلة للنقاش وحتى الدحض، لكنها في جوهرها تسعى إلى جعل الهوية مشروعًا مستقبليا، لأن اختزالها في التراث وحده يؤدي إلى هدر الحاضر ونسف المستقبل. إذا ربطنا ذلك بما سبق، فإن انتماء الفرد لمجموعته يجب أن يترافق مع احترام انتماء الآخرين لمجموعاتهم، لأن الشعور بالأمان يحرر الإنسان من الخوف، ويدفعه إلى الإبداع والتفكير بعيدا عن الصناديق المغلقة. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال إيجاد مفاهيم توافقية حول الهوية والانتماء، ودولة المواطنة، وفكرة الحقوق والواجبات، ومفهوم الحرية الدينية.
لا يشعر الإنسان بالأمان إلا عندما تكون حياته محمية، وخياراته مصانة. وهنا تكمن المعضلة الأساسية التي تشغل الشارع السوري. النقطة الأولى هي إحلال الأمن والنظام، وهنا أستدعي قول الدكتور مصطفى محمود: “المعجزة الحقيقية هي في إحلال النظام، وليس في خرقه.” فالنظام هو الضامن الأساسي لأمن الإنسان.
لكن علينا أن نفرق بين المفاهيم المختلفة: فالدولة ليست حكم الفرد، والنظام ليس مرادفا لنظام الأسد السابق، والحرية الدينية لا تعني الفوضى، من والحرية السياسية ليست مجرد نقاش عقيم. الدولة، في جوهرها، هي سلطة، وشعب، وأرض، وسيادة، وليست مجرد سلطة حاكمة. الدولة وحدها تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة وفق القانون، وهذه السلطة لا تستقيم دون الشعب. لكن في ظل نظام بشار الأسد، تم اختزال الدولة في فرد وسلطة أمنية صادرت كل الحريات، ما دفع الشعب السوري، إما إلى الموافقة القسرية، أو إلى تأجيل مشروعه الديمقراطي في بناء دولة تحترم حقوقه.
التحديات أمام سوريا المستقبل
1- إحلال النظام بطريقة غير انتقامية:
يجب تحقيق الاستقرار دون انتقام، مع حقن الدماء، ومحاسبة مجرمي النظام السابق وفق مبدأ “الرئيس الهارب”، أي عدم تحميل طائفة بأكملها مسؤولية أفعال فرد أو مجموعة. فكل من تورط في سفك دماء السوريين أو في إهانة كرامتهم يجب أن يُحاسب بموجب القانون، بغض النظر عن انتمائه.
2- تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الظروف المعيشية:
يجب تفادي أخطاء النظام السابق، وأبرزها تفضيل فئة على أخرى، والقضاء على ممارسات الزبائنية السياسية، التي كرّست الفساد والمحسوبية.
3- عقد مؤتمر وطني جامع:
يجب عقد مؤتمر لا يقصي أي طرف، لمناقشة مفاهيم جوهرية مثل الهوية، ودولة المواطنة، ومكان الفرد بين العائلة والقبيلة والطائفة من جهة، والدولة من جهة أخرى. هذا الموضوع يجب حسمه، إذ لا يمكن أن تبقى هذه القضية مفتوحة إلى الأبد، بل يجب التوصل إلى مخرجات تضمن لكل فرد حرية التعبير عن دينه وطائفته وانتمائه العرقي، دون أن يكون ذلك على حساب الانتماء للدولة.
4- تدعيم انتماء الفرد للدولة:
يجب تحديد وترسيخ المعنى الحقيقي للدولة، وعدم جعلها مجرد جهاز أمني، بل دولة من الشعب، وللشعب، ومن أجل كرامة الشعب.
5- علاقة السلطة بالمثقفين:
يجب ضمان مشاركة المثقفين المستقلين، وإعطاء دور لأولئك الذين كانوا مهمشين، بغض النظر عن انتماءاتهم. كما يجب أن تتيح السلطة لهم حرية التعبير، حتى وإن كان طرحهم مخالفا لرؤيتها، لأن المثقف الناقد يمكن أن يساهم في سد الثغرات في الدستور والسياسات العامة.
6- مخرجات المؤتمر الوطني:
هل ستكون مخرجات المؤتمر شاملة لكل وجهات النظر؟ هل سيتم تغييب طرف معين؟ كيف سيتم التعامل مع المكونات غير العربية؟ وكيف ستتم معالجة القضية الكردية؟ فالأكراد يشعرون تاريخيا بأنهم مستهدفون، لماذا يتم التعامل مع الملف الكردي على أنه “قسد”هل كل كردي ينتمي إلى “قسد”؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات، ما يستدعي عقد اجتماعي جديد.
7- قضية السيادة:
لا يمكن الحديث عن دولة حقيقية دون سيادة على كامل أراضيها. هذا الأمر يعتمد على قدرة السلطة الجديدة على التفاوض مع القوى الخارجية، والاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من استقلالية القرار الوطني. كما يتطلب التعامل بحكمة مع ملف “قسد”.
الاختلاف لا يعني الانقسام
عند مواجهة هذه التحديات، يجب أن يتحول الاختلاف إلى اختلاف في وجهات النظر، لا أن يُعتبر كل رأي مختلف بمثابة خيانة أو عمالة للخارج، لأن هذا النهج لا يؤدي إلا إلى مزيد من الحروب الطائفية.
حاليا، يسيطر على الشارع السوري تياران غير سياسيين: التيار المتفائل والتيار المتشائم. وما كانت الثورة السورية إلا نتيجة لحالة الاغتراب السياسي، التي تحولت مع الزمن إلى تنافر بين الفرد والنظام السياسي، خاصة بعد فشل الأخير في إنتاج حلول تعبر عن المواطن في كل مناحي الحياة. لقد أدى هذا الفشل إلى خلق إيديولوجيا سائدة، قائمة على تقديس السلطة، بدلاً من خدمتها للصالح العام.
أثناء الفوضى، يبحث الأفراد عن البقاء، لكن عليهم أن يحترموا بعضهم البعض كي لا تنزلق البلاد نحو حرب طائفية. علماء النفس يشيرون إلى مفهوم “إنذار البقاء”، حيث يؤدي الشعور بالخطر إلى تعطيل التفكير المنطقي، فينحصر العقل في غريزة البقاء فقط. في ظل ذلك، على السوريين أن يدركوا أن الكرامة ليست فقط في الحياة، بل في الفكر أيضا.
ختاما:
سوريا المستقبل يجب أن تكون قائمة على أسس جديدة، حيث المواطنة لا تُختزل في الشعارات، بل تُترجم إلى حقوق فعلية، تُصان فيها الكرامة، ويُحترم فيها التنوع، ويُبنى فيها نظام سياسي يحقق العدالة لكل السوريين.
بقلم الدكتورة: ندى ملكاني دكتورة في العلوم السياسية