نبعد أكثر من عقد من الحرب والانقسام والتدخلات الخارجية واستمرار ذلك إلى الوقت الحاضر، يقف السوريون أمام استحقاق وطني يفرض نفسه بقوة، أي شكل من أشكال الحكم يمكن أن ينقذ البلاد من التشرذم؟ ويعيد بناء الثقة بين مكوناتها في ظل تجارب مريرة مع المركزية الصارمة التي عمقت الفوارق وأنتجت الإقصاء؟
يُطرح خيار اللامركزية كحل يمكن أن يعيد التوازن بين المركز والأطراف، ويوزّع السلطة والثروة بشكل عادل، ويضمن مشاركة أوسع للمجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، هذا النقاش لم يعد حكراً على النخب السياسية، بل أصبح قضية عامة تتقاطع عندها تطلعات السوريين نحو العدالة والديمقراطية والتنمية المستدامة.
وفي خضمِّ النقاش الدائر حول مستقبل سوريا السياسي والإداري، يبرز رأي عدد من الشخصيات الوطنية التي ترى في اللامركزية أكثر من مجرد خيار إداري، بل مدخلاً لإعادة صياغة العقد الاجتماعي، ومن بين هذه الأصوات طرح الرفيق عبد القادر الموحد عضو المكتب السياسي المستشار العام لحزب الوطن السوري رؤيته التي توازن بين المخاوف والفرص، حيث رأى أن اللامركزية إذا طُبّقت بضمانات دستورية، وفي إطار وطني شامل تمثّل فرصة حقيقية لمعالجة التشرذم، وتحقيق تنمية متوازنة، وحماية وحدة سوريا من خلال توزيع عادل للسلطة والثروة.
الرفيق عبد القادر الموحد عضو المكتب السياسي المستشار العام لحزب الوطن السوري
وأكد الموحد أن التجربة التاريخية أثبتت أن المركزية الصارمة عمّقت الإقصاء، وأضعفت الثقة بين المكونات، محذراً من أن تطبيق اللامركزية على أرضية دولة منهارة أو تحت هيمنة سلطات الأمر الواقع سيؤدي إلى تقسيم وصراعات جديدة.
وأشار الموحد إلى أن الطريق الآمن يبدأ بوقف النزاع، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وصياغة دستور توافقي، ثم نقل منظم للصلاحيات، ليصبح التنوّع السوري ركيزة للوحدة والديمقراطية بدل أن يكون سبباً للصراع.
ومع تعدّد الآراء حول كيفية تطبيق اللامركزية تتلاقى مواقف العديد من القوى السياسية والاجتماعية على ضرورة مقاربة هذا الخيار بعيداً عن المخاوف المرتبطة بالتقسيم، والتركيز بدلاً من ذلك على إمكاناته في تعزيز المشاركة الشعبية، وضمان وحدة البلاد، هذا ما عبّرت عنه شيرا أوسي الرئيسة المشتركة لمكتب الإعلام في مجلس سوريا الديمقراطية، مؤكدة أن اللامركزية ليست نقيض الوحدة بل ضمانة لحمايتها.
شيرا أوسي الرئيسة المشتركة لمكتب الإعلام في مجلس سوريا الديمقراطية
وقالت شيرا أوسي: حين نتحدث عن اللامركزية لا نعني تقسيم البلاد أو المساس بوحدتها الجغرافية، بل نطرح تصوراً يقوم على تمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها ضمن دولة ديمقراطية تعددية تحفظ السيادة وتكرّس المشاركة الشعبية الفاعلة.
وأضافت أوسي أن بعض التجارب الميدانية رغم كل التحديات أثبتت أن الإدارة المحلية الديمقراطية ممكنة، وقادرة على الحفاظ على الأمن والخدمات، والتنوع حين تتوفّر الإرادة.
وشدّدت شيرا أوسي في ختام حديثها على أن اللامركزية هي الأساس لبناء الثقة المفقودة بين المكونات السورية، والإطار الأنسب لإطلاق مصالحة وطنية عادلة قائمة على الاعتراف المتبادل، والتوزيع العادل للسلطة، والثروة، واعتبرت أنها الضمانة الوحيدة لمنع عودة الاستبداد تحت أي صيغة، مؤكدة أنه من دون لامركزية حقيقية وفاعلة لن يكون هناك حل دائم في سوريا.
ومن خلال مختلف الطروحات، يتّضح أن اللامركزية باتت العنوان الأبرز في النقاشات حول مستقبل سوريا، ليس فقط كآلية لإعادة توزيع الصلاحيات، بل كمدخل لإعادة بناء الثقة الوطنية، وصياغة دستور جديد يعزّز العدالة والمشاركة، وإنها ليست مشروعاً إدارياً ضيقاً، بل خياراً استراتيجياً يفتح الباب أمام مصالحة وطنية شاملة، ويحول دون عودة الاستبداد.
وبين من ينظر إليها كحل للأزمة التنموية والسياسية، ومن يعتبرها الضمانة الحقيقية لحماية وحدة البلاد وتنوّعها، يبقى المؤكد أن اللامركزية ستكون محوراً لا غنى عنه في أي تسوية سياسية مقبلة، وركيزة لولادة سوريا ديمقراطية مستقرة.