#قصة_قصيرة
“حكاية مدينة”
كانت المدينةُ تشبه كائناً جريحاً يتأرجح بين الغيبوبة واليقظة، جدرانها مشقّقة كوجهٍ عجوزٍ طعنته السنين، وأزقّتها الضيّقة تُشبه أمعاءً ملتوية تخبّئ أسراراً سوداء، على الرغم من الركام كانت رائحة الخبز الساخن تخرج من بعض البيوت كنبضٍ يرفض الموت، أو كفمٍ صغير يقاوم الغرق وهو يلهث للهواء.
جلس “أبو كريم” على عتبة منزله المتهالك، ينفث دخان سجائره الرخيصة، ويُحصي بعيونه المُجهدة خطوات الجنود الذين يجوبون الشوارع بخُوذاتهم الثقيلة، كانوا يتحرّكون ببطء، كأن الأرض نفسها تعترف بسيطرتهم،
إلى جواره همست “أم كريم” بصوتٍ يشبه التلاشي:
ـ ما عاد إلنا غير الصبر…
على مقربة كان “سليم” يحاول خداع نفسه بضحكةٍ عالية، وينتظر حلمه أن يتحقّق بالرحيل والهجرة، كان يروي نكاتٍ سمجة لأصدقائه، لكن عينيه كانتا تفضحانه إذ كانتا معلّقتين بـ “ليان”، الفتاة التي فقدت أباها في ليلةٍ لم تُطفئ نيرانها بعد، كانت ملامحها تجمع بين براءة الطفولة وصلابة من شرب المرّ دفعةً واحدة، وعيناها كنافذتين مفتوحتين على جرحٍ لا يُغلق.
وفي الظلّ، تحرّك ” أبو الخضر” لم يكن أحدٌ يعرف اسمه الحقيقي، قيل: إنه وُلد يتيماً في بيتٍ لقيطٍ، وقيل: إنه ابن شيخٍ عتيق باع ضميره، لم يهمّ أحدٌ أصله، فقد كان الحاضر أشنع من أي نسب، كان يبيع السلاح كما يبيع الخبز، يبتسم لمن سيقتله، ويصافح يد من سوف يطعنه، حتى الأطفال كانوا يهمسون عند مروره: هذا الرجل يأكل قلوب الناس.
ومع كل صفقةٍ جديدة، كان جسد المدينة ينزف أكثر، رجالٌ اختفوا في عتمة السجون، نساءٌ تاهت صرخاتهن في ممرّات البغاء، أطفالٌ أصبحوا يلعبون بالعظام بدل الألعاب، وأبو الخضر القوّاد يضحك… يضحك حتى خشيت المدينة أن يبتلعها ضحكه.
لكن حين بدأ الشكّ في سقوط النظام المجرم يدخل لقلبه، وخشي من أن يلتف حول رقبته حبل المشنقة مثل حبلٍ مُحكم، هرّب زوجته “ندى” إلى بلد مجاور، قال لها:
ـ اذهبي… هناك النجاة
لم يعرف أن النجاة في تلك المنطقة لم تكن سوى شكلٍ آخر من الجحيم، هناك، تجمّعت الذئاب البشرية، نهشتها قطعةً قطعة، حتى لم يبقَ منها إلا عيونٌ زائغة تبحث عن سقفٍ يحميها، وعن ظلّ لا يبيعها.
وفي ليلةٍ باردة، حاصر رجالٌ مقنّعون “أبو الخضر”. اقتادوه مصلوب النظرات، يجرّ خلفه خياناته كما يُجرّ الكلب الميت من ذيله، لم يرفّ جفنٌ في المدينة، بل إن بعض الفقراء وزّعوا الحلوى فرحاً بسقوطه، حتى أتباعه باعوه في سوقٍ خفي بثمنٍ تافه، لأن الخيانة عندهم سلعةٌ تتكرّر بلا نهاية.
غير أن المدينة، بعينيها المرهقتين عرفت أن سقوطه لم يكن إلا حلقة صغيرة في سلسلة طويلة، ففي الأزقّة الخلفية، تحت قناديل مطفأة، كانوا يختبئ قوادون، تجّار دم، صائدو الأرواح، يتربصون باللحظة ذاتها، ككلاب تنتظر عظمةً ملوّثة لتتهافت عليها.
ورغم كل شيء، في بيتٍ شبه منهار، وقفت “ليان” تزرع وردةً حمراء على حافّة نافذتها التي فقدت زجاجها منذ زمن، كانت الوردة تشق طريقها من بين التراب الممزوج بالركام، وبينما المدينة تغفو وتصحو، بقيت هذه الوردة شاهدةً صامتة على أن الخراب لا يقدر أن يبتلع كل شيء.
#د سوزان_اسماعيل
سوريا _ اللاذقية
